23 ديسمبر، 2024 1:22 م

من المنتصر والخاسر في معركة الأنبار

من المنتصر والخاسر في معركة الأنبار

بعبارة قصيرة ودالة.. هذا هو العراق بعد عشر سنوات من احتلاله عام 2003، فوضى أمنية تصل حد غياب السلطة في أكبر محافظة تساوي جغرافيتها ثلث خارطة العراق وهي الأنبار، والتي تشكل عنواناً مهماً لفشل النظام السياسي وصعوبة قيام دولة قيل إنها بديل ديمقراطي لنظام دكتاتوري فردي لا ديمقراطي، يفترض بها أن تبسط الأمن والعدالة والسلم الاجتماعي.
ما تحقق في الأنبار ميدانياً يختصر في وصول تنظيم القاعدة للهيمنة والاستعراض في ساحات الفلوجة، بعد صعودها اللوجستي على أطراف شمال وشرقي سوريا في عملية مكشوفة وباهتة، حيث تحارب في سوريا فصائل الثورة الشعبية السورية الساعية إلى تغيير النظام السياسي في دمشق، وتكرار استعراض قوتها في الأنبار بعد هروبها الأول على أيدي أبناء العشائر عام 2004، حيث تسللت هذه المرة لتنفيذ أجندات مريبة، تحت غطاء سياسي معقد تقف خلفه أجهزة مخابرات إقليمية نافذة.

وبدلاً من أن يقوم المالكي كرئيس للحكومة والقائد العام للقوات المسلحة بإخماد النار المشتعلة عن طريق إزاحة أسبابها المعلنة وإطفاء فتيلها، لكنه ولدوافع حزبية وأهداف تخدم مشروعه الانتخابي سعى منذ عام إلى تعقيد أزمة الاعتصامات وتوظيفها لأهدافه، حيث دخل في مسلسل خطابي جرح من خلاله مشاعر أهل الأنبار وتم تخوينهم بارتباطات إقليمية عربية “طائفية تسعى إلى إسقاط نظامي بغداد ودمشق، وإن ساحة الاعتصامات هي مركز لتنظيم القاعدة”، ودون الجزم باحتمالات أن تكون هناك عناصر دخيلة ومدسوسة داخل الاعتصامات أرادت التشويش واللعب على الأهداف النبيلة لأهل الأنبار الأصلاء. إلا أن هناك أخطاء قاتلة حصلت في التعاطي مع هذه القضية الوطنية العراقية، وفي ظروف إقليمية معقدة خصوصاً “أزمة الصراع المسلح في سوريا” حيث تحولت إلى مسرح لاستعراض القوة الإقليمية والدولية (طهران وموسكو وواشنطن) وتطورها إلى تداعيات مؤذية للشعب السوري الذي يمر بكارثة كبرى حيث تمت مقايضة مصالح السوريين بصفقات السلاحين الكيماوي السوري والنووي الإيراني لصالح إسرائيل، وإدخال تنظيم القاعدة كطرف في الميدان العسكري.

إن الوضع العراقي، مختلف من حيث الجغرافيا السياسية حيث قدم الشعب العراقي تضحيات هائلة في ظل الاحتلال العسكري بعد 2003، وكان لهذه البقعة الجغرافية (الأنبار وخصوصا الفلوجة) مآثر في المقاومة الوطنية المسلحة. ولم تقتصر الاحتجاجات المشروعة على محافظة الأنبار، وإنما امتدت إلى كل من صلاح الدين وديالى والموصل وكركوك وجزء كبير من بغداد. ومع كل الضغوط السياسية وعمليات اختراقها عبر وجهاء من العشائر يخضعون لإغراءات المال والوجاهة، ولعبوا على الوساطة الهادفة إلى تحقيق منافع للوسطاء، إلا أن مطالب المعتصمين استمرت، فالقضية الوطنية لا تحتاج إلى وساطات.

توقع رئيس الحكومة المالكي في تصعيده أنه سيربح المعركة في الأنبار عن طريق استثمار محاولات داعش العودة إلى هذه المنطقة إذا ما تمت محاصرتها هناك، ووثق من نصره اعتماداً على استثمار العداء الأميركي لتنظيم القاعدة وسعيهم لحصر تلك المجاميع في منطقة القتل وبأدوات محلية. وهكذا سارعت الإدارة الأميركية إلى دعمه بالسلاح النوعي لهذا النوع من المعارك، والمعلومات الاستخبارية.

كانت حسابات المالكي تحويل النصر العسكري اللوجستي بسحق المحتجين، وهزيمة رموزهم السياسية وبينهم رؤوس لقوائم منافسة له ليس في الأنبار فحسب وإنما في جميع المحافظات التي أطلق عليها “المحافظات العربية السنية”.

إن المعركة ضد الإرهاب ضرورية لتخليص أبناء العراق منهم ومن جميع مشعلي فتن الحرب الطائفية، ولكن المالكي وظف المعركة ضد الإرهاب توظيفاً فاشلا، عندما استهدف في حربه الأعداء الحقيقين للقاعدة ولداعش وهم أهل الأنبار. فمعارك من هذا النوع لابد أن تكون ذات هوية وطنية وليست حزبية تستنهض الروح الوطنية العراقية لجميع العراقيين ضد الإرهاب.

إن أخطر المعارك وأشدها تعقيداً حينما تختلط في ساحتها الصور وتتشابك العناوين، ولا يعرف العدو من الصديق، ولعل ما حصل في الأنبار في جانبه اللوجستي اشتباكات مسلحة ظهرت فيها أطراف متعددة، عشائر المحافظة وأبناؤها والقسم الأكبر منهم كان على منصات الاعتصام، وتشكيلات للمقاومة السابقة للاحتلال رغم عدم دخولها في المعارك حسبما رشح من أخبار، وقوات الشرطة المدعومة من الأهالي وقوات الجيش ومجموعات لتنظيمات داعش قيل إنها لا تتجاوز الخمسين فرداً، وهناك شكوك حول الجهات التي أدخلتهم للرمادي والفلوجة في وقت كانت قوات الجيش تطاردهم على الحدود السورية العراقية.

أما على المستوى السياسي، فقد انكشفت دوافع السياسيين الانتخابية، سواء السياسيين المحليين والأطراف العشائرية المتنافسة في الأنبار أو المالكي الساعي إلى ولاية ثالثة حيث يمتلك الجيش والأمن والشرطة والمال، وكانت الضحية هم أهل الأنبار. ولم يتمكن المالكي من حصاد النصر في معركته، معتقداً إنها شبيهة بصولة الفرسان التي شنها ضد مليشيات جيش المهدي في البصرة في آذار 2008. في محاولة لم تكن موفقة لتوجيه رسائل إلى بيئته الطائفية بأنه الزعيم الأول من بين منافسيه. ولإشعار العرب السنة بأن لا مستقبل لأبنائهم في الحياة السياسية، وأن نماذجهم التي برزت خلال السنوات القليلة الماضية لديها أجندات طائفية إقليمية في مشروع مناهض لمحور إيران- العراق- سوريا الأسد- لبنان نصر الله.

وفي تقديري فإن الذي انتصر في معركة الأنبار هم أهل الأنبار، ومعهم كل أبناء العراق لكونهم عبّروا عن أصالتهم الوطنية في مواجهة إرهاب تنظيم القاعدة في طبعته الجديدة “داعش” وطردهم من أرضهم، وإن وحدة العراق من الصعب اختراقها، وأن لعبة كثر من السياسيين المحليين قد انكشفت دوافعها البعيدة عن مصالح الناس في الانتخابات المقبلة. لقد انتصر الوطني على الطائفي والمصلحي، أما الخاسرون في هذه المعركة سياسياً طرفا النزاع وفي مقدمتهم المالكي، حيث كانت أمامه فرصة التحوّل إلى زعيم وطني عابر للطائفية، فالزعامات تظهر عبر فرص تاريخية توفرها لهم طبيعة صراع هوية الوطن ضد الهويات الفرعية، وضد الأعداء الكبار أو الصغار. وقد كشفت معركة الأنبار اللثام عن المتاجرين بدماء العراقيين من أجل مصالح حزبية وانتخابية. وتحققت الغلبة لهوية العراق الوطنية وللمنتمين لعراقهم الواحد، أهل الأنبار.