عُقد في موسكو في الخامس عشر من آب/ أغسطس؛ المؤتمر الحادي عشر للأمن الدولي. وقد شاركت فيه سبعون دولة، بوزراء دفاعها، وذلك بالرغم من المقاطعة الأمريكية التي جندت الأوروبيين، أعضاء الناتو، وكل من يلتحق بالسياسة الأمريكية، سواء أكان عن رغبة أم كان رَهَباً لعدم المشاركة، الأمر الذي اعتبر نجاحاً للمؤتمر عندما بلغ عدد المشاركين سبعين.
هذا واعتبرت مشاركة الصين بوزير دفاعها لي شانغ هو، تأكيداً لثبات التحالف الروسي الصيني، وذلك على الضد من التحليلات التي حاولت التشكيك في متانة هذا التحالف من خلال سياسات صينية بدت للبعض، كأنها تبتعد عن روسيا، بهذا القدر أو ذاك، مثلاً مشاركة الصين في مؤتمر جدة بحثاً عن تسوية للحرب في أوكرانيا.
جاءت كلمة وزير الدفاع الصيني بلهجتها العالية النبرة، ضد السياسات الأمريكية المتجهة إلى تصعيد التوتر العالمي، حفاظاً على هيمنتها العسكرية على المستوى العالمي. وركزت الكلمة على “كسر الهيمنة العسكرية الأمريكية على العالم”، كما أكدت على “تعزيز التعاون الأمني في منظمة شنغهاي”.
وجاءت زيارة وزير الدفاع الصيني لي شانغ هو إلى بيلاروسيا، وقد دامت ثلاثة أيام عمل، لتكمل الرسالة الصينية حول التحالف مع روسيا وشؤون أخرى.
كلمة بوتين أكدت على أن إقامة نظام عالمي متعدّد القطبية “سوف يحل أغلب المشاكل الدولية”، وهاجم السياسة الأمريكية الساعية إلى “عسكرة أوروبا والمحيط الهادئ فما زالت في حالة الحرب السجال على مستوى الميدان، مع ميلان نسبي في مصلحة روسيا
وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قال إن حرب أوكرانيا “أنهت الهيمنة الأحادية الأمريكية للعالم”. أما سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، فلم يقصر في الضرب على الوتر ذاته مبرزاً اتجاهاً عالمياً جديداً: “يتمثل في توجه العديد من دول العالم لاستخدام عملاتها المحلية في معاملاتها التجارية والمالية”.
وقد صاحب المؤتمر عرض لأسلحة روسية مع تصريح للرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف عن مجلس الأمن القومي الروسي، أبرز فيه القدرة العسكرية الروسية على مواجهة الأسلحة الغربية عالية التقنية.
وخلاصة، أُريدَ من المؤتمر أن يأتي رداً على ما سبقه من مؤتمرين، أحدهما للناتو (الأطلسي)، وثانيهما لتحالف أوكوس في المحيط الهادي الموجّه مباشرة للصين. وقد شددا، بالقدر نفسه، على إبراز قوة الغرب في مواجهة روسيا والصين، وتأكيدهما على دعم أوكرانيا، وصولاً إلى إنزال الهزيمة بروسيا.
وبهذا تكون المواجهة العالمية، والتي يمكن تسميتها “حرباً عالمية”، ذاهبة بالأقوال والأفعال باتجاه التصعيد، فالتصعيد من جانب أمريكا وحلفائها من جهة، والصين وروسيا والدول التي تتقاطع معهما من جهة أخرى. وإذا كانت الحرب في أوكرانيا، تشكل الكشاف الأول لمن ستكون الغلبة، فما زالت في حالة الحرب السجال على مستوى الميدان، مع ميلان نسبي في مصلحة روسيا.
وقد كان هذا الميلان متوقعاً، لو اقتصرت الحرب بين روسيا وأوكرانيا. أما عندما تكون الحرب بين روسيا مقابل 28 دولة تدعم أوكرانيا: بالتأييد السياسي العالمي، والدعم العسكري بأدق الأسلحة الغربية، وبدعم مالي بلغ عدداً مهولاً من عشرات بلايين الدولارات، فإن تمكن روسيا من الصمود، والتغلب النسبي، بعد ما يقارب السنتين من الحرب، يعدّ إنجازاً مقدّراً، ومما يجعل الميلان النسبي إنجازاً عسكرياً مقدّراً أيضاً من جانب روسيا، وقد ذهب على الضد من حسابات الناتو وأمريكا التي توقعت إنزال الهزيمة بروسيا خلال السنة الأولى من الحرب.
هذا، وإن قراءة مدققة لميزان القوى العسكري والاقتصادي والمالي والسياسي، بين أمريكا وحلفائها من جهة، وروسيا والصين، وما يُحسب في مصلحتيهما، من جهة ثانية، يشير إلى أن حرب أوكرانيا ستكون سجالاً، وربما لعدد من السنين، قبل أن تُحسم.
فمع بداية الحرب توزعت تقديرات المحللين بالنسبة لمن تكون الغلبة، بين من يتعاطفون مع روسيا والصين، وهؤلاء كُثر بسبب الموقف المعادي لأمريكا والغرب وليس بسبب الانحياز لروسيا أو الصين، من جهة، وبين من ينحازون لأمريكا والغرب بسبب الهيمنة الأمريكية- الأوروبية على العالم، وما جرّته من هيمنة فكرية وسياسية، وسيطرة دولية وروابط متواصلة طوال القرن العشرين، من جهة أخرى. وكان العجب من الذين لا يقفون ضد أمريكا والغرب بعد الذي أثخنوه في شعوبنا، وشعوب العالم في مراحل الاستعمار والإمبريالية، ولا سيما جريمة إقامة الكيان الصهيوني.
على أن الذي سيقرر لمن الغلبة في هذه الحرب ليست الأهواء والرغبات والانحياز، وإنما ميزان القوى العسكري في الميدان. وما سيتقرر مستقبلاً بالنسبة إلى من سيتعب أولاً، أو يصرخ أولاً.
هنا ثمة بُعد، وإن لم يكن البُعد الأهم أو الحاسم في كل الحالات وتجارب الحروب، ولكنه كان الأهم والحاسم في بعضها، ولا سيما في حالة الإمبراطوريات التي انهارت أمام قوى أقل عدة وإعداداً وعديداً وإمكانات في ظل النظام الذي أقام الكيان الصهيوني، وراح يتصهين ويتمادى في تدمير العالم
هذا البُعد تُمثل فيه أمريكا وأوروبا ومعسكرهما حالة القوى المسيطرة والمتفوقة، ولكنها دخلت في مرحلة الترهل والشيخوخة، وألوان من الضعف المعنوي والأخلاقي. هذه المرحلة تحوّل كثرة العديد والتفوّق إلى عاملي ضعف لما يورثانه من ارتكاب أخطاء استراتيجية وفساد، وما يتفجر من تناقضات داخلية، وثم بروز قيادات على مستوى متدنٍ من حيث المستوى والكفاءة، والإبداع والعزيمة، والنشاط والهيبة والمكانة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن مقارنة القيادات الأمريكية والغربية بأقرانها السابقين في العقود والقرون السابقة، أي الذين قادوا الحروب المنتصرة، وأسهموا في نهوض دولهم.
وفي المقابل، فإن حالة الصين وحالة روسيا، ومعارضي أمريكا والغرب عموماً، في موقع الفتوة والعزيمة والنهوض، وتمثيل الجديد عالمياً. فأمريكا وأوروبا تمثلان النظام العالمي الذي آن سقوطه، وقد هيمن طويلاً فيما تمثل روسيا والصين إقامة نظام عالمي متعدّد القطبية، مقابل أحاديّ القطبية، واستفراد الدولار على النقد العالمي كله في ظل النظام الذي أقام الكيان الصهيوني، وراح يتصهين ويتمادى في تدمير العالم، ناهيك عن التاريخ الاستعماري والإمبريالي وامتداده الهيمني العالمي المتداعي إلى انهيار خطوة بعد خطوة.
هذا البُعد، وإن لم يكن الوحيد، ولكنه في منتهى الأهمية في قراءة مستقبل الحرب العالمية المندلعة في أوكرانيا.