شط العرب.. يوم طفا السمك ميتا !
منذ مئات إن لم نقل ألوف سنين وشط العرب يندفع متدفقا مانحا الحياة لكل كائن حي يقيم على ضفتيه .بل ان واحدة من الفراديس وهي الابلة ازدهرت على تينك الضفتين بساتين نخل وتين ورمان واعناب .
ولعل سنة 1969 وبالضبط في شهر حزيران قد شهدت الانتكاسة الصحية للنهر مع الفيضان الذي اجتاح المدينة مخلخلا ظاهرة المد والجزر اليومية طاعنا المنظومة الزراعية في الصميم ،كمحصلة للاحتكاكات القائمة بين نظامين متجاورين ــ هما النظام الفارسي الشاهنشاهي والنظام البعثي الذي جيّره صدام حسين لمصالحه الذاتية ــ اخفقا في استثمار اختلافهما الفكري في توفير حياة مسالمة رخيّة لأهالي الضفتين .ومن هنا يمكن القول ان ذلك الفيضان قد دق جرس الإنذار لما يطلق عليه بحرب المياه والذي استكملت حلقاته حرب ثماني السنوات بين بلدين جارين وما جرّته من جهود هندسية تدميرية كان الهدف منها تحقيق انتصارات فارغة وهمية دفع أثمانها الباهظة الشعبان المتحاربان بإرادات سياسية لا تقيم وزنا لبشر ولا لمخلوق نباتا كان او حيوانا .
جندي لكل الحروب
سنة الفيضان تلك 1969 ارخّت للعد العكسي لنهر المدينة الكبير.. شط العرب الذي أطلقتُ عليه ..ذات مرة تسمية (جندي لكل الحروب )!
منذ عقود وأنا اسمع وأقرأ عن معضلة شط العرب الذي تحول الى ورقة سياسية يتلاعب بها هذا الطرف او ذاك . ومع مرور الأيام ومقدم النظام البديل ما بعد 2003 انهمك ساسة وإداريو البلد في صراعات ومهاترات جرت الوبال على قطاعات عريضة من الشعب لتصبح المحصلة اهمالا وتناسٍ للدورة الحياتية لمانح الحياة .. شط العرب وغير شط العرب.
وبفضل الصراعات والتناسي والفساد جرى إلحاق النهر بدورة مجاري المدينة بتحويله الى قيصرية تستقبل وبشكل يومي اطنانا من الماء الثقيل؛ ناهيك عن طمر روافد النهر ورواضعه بشتى أصناف القمامة وأغلظها حجما وفئة.في العهد الملكي كانت البلدية تحظر على نسوة المناطق المطلة على نهر العشار غسل آنية الطهي وخلافه كان يتم محاسبة من يخالف القرار!
مبدئيا ان الوصول الى اسباب المعضلة هو نصف الحل واعتقد جازما ان الرؤية لم تتضح لحد الان ولم يجرِ تحري الأسباب الحقيقية لتدهور الحالة الصحية لشط العرب ومن ثم (وفاته) بأطنان هائلة من الأملاح ناهيك عن مركبات كيمياوية سامة قتلت أسماكه وصرعت كائناته الحية
وتسببت بعطش الملايين من سكنة المدينة .
آراء وحلول
يرى أحد الباحثين ان معضلة ملوحة شط العرب غير متأتية من انهار الضفة الشرقية ــ الكارون وبهمنشير والكرخة وسواها ــ ولا على المؤثرات البحرية القادمة من مياه الخليج المالحة وحسب ، بل ان مياه النهر اصبحت حاصل كم ملايين الامتار المكعبة التي ترتفع فيها الملوحة بنسب عالية بدءأ من اول كيلومتر لدجلة وأول كيلومتر للفرات في الاراضي التركية وانتهاء بملتقى شط العرب في القرنة.ويعزو الخبير السبب الى ان نهري بلاد الرافدين يتغذيان من الأملاح التي تتركز بحكم التضاريس في بحيرتي الثرثار وساوة على سبيل المثال وغيرهما من مئات المسطحات المائية الخازنة للأملاح ، ليجرف النهران تلك الاملاح جنوبا باتجاه الاهوار ومن ثم الى ملتقى النهرين يضاعفها البطء الحاصل في اندفاع مياه النهرين وهما يتوغلان في دلتا سهلية رسوبية تفتقد الميلان الذي يساعد على تقليل تلك التراكيز الملحية العالية .
ثمة اشكالية اخرى تتعلق بالنظام الزراعي الذي يعتمد على آليات البزل
التي ألفتها ارض السواد منذ مئات بل الوف السنين .وقد أسهمت هذه المبازل التي تشق بأيدي المزارعين في مضاعفة التراكيز التي تحتوي على كميات هائلة من الملح ناهيك عن شتى اصناف المعادن التي تذوب في مياه النهرين الكبيرين ،لتمضي مجتمعة باتجاه الاهوار ومن ثم يتم احتباسها في شط العرب .
لا اتحدث هنا بلغة الخبير المختص بل بلغة المتابع المطلع فقط
وعليه اطرح المقترحات التالية علها تجد من يفندها او يستمع اليها ويضعها قيد التطبيق :
اولا : استخدام منظور شمولي طوبوغرافي واقتصادي وهندسي لا يشمل حوض شط العرب وحسب بل ارض الرافدين من المنبع الى المصب .لقد سمعنا عن سدود اقترح امر اقامتها في هذا الموقع او ذاك من دون توظيف هذا المنظور المشار اليه اعلاه .
ثانيا : تحديث أساليب الزراعة في شمال ووسط وجنوب القطر لا بالنظر لمصالح الاقطاع والمتنفذين الشخصية بل بالنظر لمصلحة الوطن .ويشمل هذا التحديث اجتثاث اية ممارسات قد تؤذي الثروة المائية ، ومن هنا لابد من توفير قوانين تنظيم رادعة للحد من أية تجاوزات محتملة .
ثالثا : عدم اقامة أية سدود مؤقتة ترابية اوغير ترابية قبل التوثق من انها لن تخنق شط العرب ؛النهر الذي يستقي ماءه حرا من مصادره الشمالية وغير ممتزج بمياه البحر جنوبا . فبعض هذه السدود تؤدي الى تحول النهرالى بركة راكدة تتآكلها الألسنة البحرية .
رابعا:من الضروري ايقاف عمليات قذف المياه الثقيلة في انهار المدينة ورواضعها مع ايجاد بدائل هندسية وميكانيكية لتصريف هذه المياه .
خامسا : تأجيل كري وتطهير انهار المدينة الى ما بعد المعالجة النهائية والشاملة لأزمة المياه في عموم القطر.
سادسا: تفعيل برنامج توعوي الغرض منه تنوير المواطن بكل المخاطر التي تكتنف جوانب الأزمة على كافة الأصعدة ..بيئية واقتصادية وسياسية ذلك ان المسلك اليومي للمواطن في تعامله مع النفايات ذو طبيعة كارثية . فلوأخذنا نهر العشار على سبيل الحصر لا التعميم تتضح لنا الأضرار البيئية التي تترتب على تكدس كميات هائلة من وجبات المطاعم والزجاجات البلاستيكية بمختلف احجامها وكل ما يخطر وما لا يخطر على البال من نفايات!
سابعا: تحسين آليات التعامل مع دول الجوار .. تركيا ، ايران وسورية
عن طريق اختيار خبرات ذات كفاءة من اجل ادارة ملف المياه مع الارتقاء بمستويات المناورات السياسية التي تستضيء بالقوانين الدولية دون الحاجة الى العنف أو قعقعة السلاح .صحيح ان تركيا على سبيل المثال تتحكم بمياه المصب عن طريق سد اليسو بمعنى ان في ايدي الاتراك ورقة قوية في فرض شروطها ، ولكن اليس في ايدينا ورقة قوية يمكن استثمارها من اجل أمن مائي مستقر ألا وهي البترول الذي تفتقده تركيا ؟ اليس لدينا ايضا ورقة ضغط اخرى حيال ما لدى الجانب الأيراني من أوراق .. ألا وهي السياحة الدينية ؟
نحن احوج ما نكون الى السياسة لا الى الحماسة في تناول ملف حساس كملف المياه. اليس كذلك ؟