-1-
الملف الحسيني ملف ضخم …
ضخم في معطياتهِ ودروسه ،
وضخم بشخوصه ورجاله وشهدائه …
وضخم بحوادثه وكوارثه …
وكيف لا يكون كذلك وهو الملف الذي أثار في ماضي الدنيا وحاضرها ما لم يُثِرُهُ ملف آخر …
انه يحمل من الاسرار والاخبار والتجارب والعجائب ما يجعله فريداً متميزاً .
في هذا الملف :
تبرز (المبدأية) بأجلى صورها وأبعادها عند الحسين والأبرار من اهل بيته وانصاره، بينما تتجلى العبودية للدنيا والمطامع عند أعدائه ومناوئيه كما يتجلى الانحدار الى المستنقعات الآسنة …
إنَّ المعركة يوم الطف هي معركة (المبادئ) مع (المصالح) تحديداً،
وهي معركة الحق مع الباطل ،
ومعركة الهدى مع الضلال ،
ومعركة الشرف والمروءة مع السفالة والنذالة .
-2-
ونحن في هذه المقالة ، لا نريد ان نخوض في الجوانب التي ينطوي عليها هذا الملف الكبير ، حيث انه يشتمل على جوانب عديدة :
فهناك الجانب العقائدي ،
والجانب الانساني والاجتماعي ،
والجانب العسكري ،
والجانب السياسي ،
والجانب الاخلاقي …
وتسليط الأضواء على كل هذه الجوانب بحاجة الى موسوعة ضافية وافية ، ولا تفي به بضع كلمات وسطور كما هو الحال في هذه المقالة الوجيزة .
-3-
نحن نعلم ان الامام الحسين (ع) تحرك من المدينة المنورة نحو مكة المعظمة في اواخر شهر رجب عام 60 هجرية ومعنى ذلك :
انّه التقى بكثير من المعتمرين الوافدين الى مكة المكرمة من كل أرجاء الوطن الاسلامي الكبير ، وبأضعافهم من الوافدين الى مكة المكرمة للحج..
وقد وظّف (ع) هذين الموسمين – موسم العمرة المفردة والحج – لصالح اقناع من يلتقيهم بالانضمام اليه وهو يقود حملة التحرير من براثن الظلم والفساد .
وقد استجاب له الكثيرون ، والتحقوا بالركب الحسيني الطاهر .
الا ان الكثيرين من اولئك الملتحقين كانوا يُمنون أنفسهم بالغنائم والمكاسب، فحين جاءه خبر مصرع مسلم بن عقيل –وهو في طريقه الى العراق – انفض عنه الانتهازيون الطامعون بالمكاسب والامتيازات ، وبقي معه الأبطال الرساليون الذين صوّرهم الشاعر بقوله :
لو لم تَكُنْ جُمعتْ كلُّ العُلا فينا
لكان ما كان يوم الطف يكفينا
يومٌ نهضنا كأمثال الأُسود به
وأقبلتْ كالدبا زحفا أعادينا
جاؤوا بسبعين ألفا سَلْ بَقِيَتَهمُ
هل قابلونا وقد جئنا بسبعينا ؟
( الدبا ، الجراد )
انهم على قلتهم استطاعوا ان يلونوا صفحات التاريخ بلون جديد، ومسار فريد ، فلقد وظفّوا آخر قطرة من دمائهم الزكية من أجل رسالتهم، ومن اجل انقاذ المظلومين من براثن الاستبداد الأموي، فكانوا مشاعل نور لا تنطفئ ولا يخبو وهجها …
-4-
والآن نريد ان نقارن بين موقفين :
بين موقف ” زهير بن القين ” الذي دعاه الحسين لنصرته، فسرعان ما استجاب وكان من أبرز المناصرين له يوم الطف فدخل التاريخ من أوسع أبوابه وبين موقف ” عبيد الله بن الحر الجعفي ” الذي دعاه الحسين لنصرته فاعتذر واستعد لتقديم فَرَسِه فقط ..!!
يقول التاريخ :
دخل الحسين على (زهير بن القين) وهو عائد من الحج، وزهير – كان عثمانياً – وما انتهى الاجتماع الاّ بتحويل زهير رحله الى رحال الحسين وقال لأصحابه :
لقد غزونا مع (سلمان) … ففتح الله علينا وغَنِمنا فقال لنا سلمان :
اذا ادركتم قتال سيد شباب أهل الجنة فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم من هذه الغنائم …
والسؤال الآن :
من الذي أخبر سليمان بما سيُقْدِمُ عليه الحسين وهو لا يعلم الغيب يقينا ؟
والجواب :
انه لاشك تلّقى معلوماتِه من الرسول (ص) ،
والرسول (ص) هو أول من بكى الحسين … وأول من أخبر بما يجري عليه …
انّ غنائم الفتح ليست الاّ الأموال والنفائس التي لابُدَّ ان يتركها الانسان بالموت .
أما القتال مع الحسين والشهادة بين يديه فهي مفتاح الجنة التي فيها ما تشتهي الأنفس وما تلذ الأعين وفيها الخلود والنعيم المقيم .
ولقد دعا الحسين (ع) عبيد الله بن الحر الجعفي لنصرته والقتال معه فقال عبيد الله :
” والله اني لأعلمُ أنَّ مَنْ شايعكَ كان السعيد في الآخرة، ولكنْ ما عسى أُغني عنك ، ولم أخلّف لك بالكوفة ناصراً، فانشدك الله أنْ تحملني على هذه الخطة ، فان نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فَرَسِي هذه (الملحقة) فاركبها ، فو الله ما طلبتُ عليها شيئا قط الا لحقتُه ، ولا طلبني أحدٌ وانا عليها الاّ سبقتُه فخذها فهي لك فاركبها حتى تلحق بمأمنك ..”
وما كان من الحسين الاّ ان قال له :
” أما اذا رغبتَ بنفسك عنا فلاحاجة لنا في فَرَسِكَ ..”
انّ (عبيد الله بن الحر الجعفي) هو المثال البارز لمحبي الحياة ..،
الذين يضنون بأنفسهم عن خوض غمار اللُجج وبذل المُهج من أجل القضايا العادلة والقيم الرفيعة، وشتان بينه وبين (زهير بن اليقين) الذي سارع الى تلبية نداء الحسين وخاض معه يوم الطف معركته المقدسة ضد قوى الظلم والظلام فكانت الشهادة تاجه الذي لا ترقى له تيجان الملوك …
ولزهير بن القين ذِكرْ يتجدد على مدى الأيام ومعه من الاجلال والاكبار والثناء ما يليق بمواقفه المشرفة وبطولاته الناصعة .
أما (الجعفي) فلن ينال الاّ الازدراء والهوان والخسران …
واين الجنان من النيران ؟