23 ديسمبر، 2024 3:53 ص

من الكتابة على الماء إلى الكتابة على جذع نخلة

من الكتابة على الماء إلى الكتابة على جذع نخلة

       لعلي اول من أشار إلى الدكتور كاظم المقدادي بأن بعضمقالاته تشبه المقامة ولا سيما مقامات الحريري والفرق انه لميجترح راو لما يكتبه مثل ابو زيد السروجي او الحارث بن همامكي يكتمل بناؤها والمعروف ان المقامة  نقدية انتقادية ومن اشهرالمقامات المقامة الصنعانية التي درسها سرديا الكاتب المغربيمحمد الداهي مع بعض الروايات وخلاصتها ان واعظا دينيا كانيعظ الناس باجتناب المحرم لكنه في السر يفعل ذلك المحرم بكلأريحية في مفارقة بين الكلام والسلوك او بين الفعل ونقيضه فهويفعل نقيض ما يأمر به والدكتور كاظم بكتابه هذا ينحو نحواانتقاديا لكنه صادر من قلب موجع وان حاول ان يغلف ذلكبإسلوبه الممتع وسجعه المبجل كي يضفي شيئا من التشويق اوكما يقال في نظريات النقد كي يدمج وعيه بوعي القارىء من دونان يشعر هذا القارىء ان الكلمات أخذته بعيدا إصغاء وتمثلا محببا معظم ما كتبه المقدادي في هذا الكتاب يحتاج إلى وقفةاو توقف لاستكناه هذه البساطة الجميلة التي تستعصي علىالكثيرين فهي مختصة به طيعة بيديه  وحين قرأت اول مقالة فيالكتاب وهي تصفير الزمن تذكرت بيت المتنبي ولو برز الزمان اليشخصا لخضب شعر مفرقه حسامي

حيرة الزمن من المتنبي إلى جيل تولوز وكتابه الشهير عن الزمنلامس المقدادي في هذه المقالة السابقين وشكا الزمان وفعله المؤثرالمدمر للشكل والعقل والمزاج  ليقول وحده الزمان الذي لايتغير وكلنا متغيرون فإذا أضيف إلى ذلك زمن اجوف فارغ من المعنىكالذي نعيشه تصبح مشكلة الزمن اشكالية كبرى والفرق شاسعبين الاثنين لان الإشكالية ذات منحى فلسفي

وحين قرأت مقالته الرائعة امسحوا بغداد واستريحوا ذكرني ذلكبحديث عيسى بن هشام لطيب الذكر المويلحي  فقد استيقظالمويلحي على لسان بطل احاديثه بعد موت دام لعقود فوجدالمدينة غير المدينة تذكر أماكنها ومصادر البهجة معالمها التياعتاد صارت شكلا آخر والمهم ان الناس غير الناس كانوا اكثرطيبة وعفوية وحفاظا على تاريخها وحاضرها يقول المقدادي عنبغداد.  اليوم رغبت بجولة بغدادية مشيا على الأقدام لأرى مالايراه الأمناء ولا يهتم به الوزراء لمدينة لم يعد لها ابواب   الشرقيمخلوعا  والمعظم مرفوعا  هذه ساحة الميدان امامي صارت ملحقالخردة  وبسطيات وسوق هرج كانت نقطة انطلاق جميلة لشبكةنقل بباصات حمر من طابقين تتوزع بشرايينها على الرصافةوالكرخ  وكان البغداديون يصطفون ولا يتدافعون ينتظرون ولايتأففون

ويقول ولا تسألني  ايها العزيز عن صالات السينما ريكسوروكسي والشعب والزوراءوالخيام  فقد تحولت إلى  مخازنللأثاث وعلف الحيوان وحالها حال ساحة حافظالقاضي التيكانت مكانا لاحدث السيارات الأمريكية  واليوم تتربع في وسطها وبكل اعتزازفخر الصناعة الوطنية الستوتة  مع عربات الحملالشعبية

السخرية اللاذعة طريقة المقدادي في تقديم مقالته او مقامته وانكانت نوعا من الكوميديا غير انها تتحدث بصراحة الصحفيالأمين عن واقع لابد من تغييره  

هذا الكتاب بمقدمته الضافية التي كتبها المفكر عبد الحسينشعبان وثيقة ترقى بدلالتها المعاصرة إلى ان تكون وثيقة تاريخيةحرص المقدادي فيها على الإفادة من ميزة التواصل الاجتماعيفسجل جل التعليقات التي كانت تصله على صفحته وبعضها فيهقيمة معرفية وهي التفاتة صحفية ذكية من المؤلف الذي عمل علىتدوين هذه التعليقات فوجد الكثيرون انفسهم في هذا الكتابوكأنه كتابهم

 حين تكون الكتب عميقة لا تجامل حاكما ولا متنفذا وحين يكونكاتبها مفكرا حرا فإن الذاكرة تحفظها وتمعن في تحليل شكلهاالكتابي ومعناها  ولعل هذا الكتاب يحقق لصاحبه ما يرجوه منقراءة .

        يأخذ العنوان دلالته من انسجامه مع المتن ، الشعراء كانوا اول من أشار الى نوع من الكتابة هي ا لكتابة على الماء  ،يقول عبد الوهاب البياتي في مقطع شعري :.يأتي مع الفجر ولا يأتي / حبي الذي أغرق في الصمت / الحب أعمى وأنا ههنا / اكتب فوق الماء ما قلت /حبيبتي من قبل أن تولدي / أحببت عينيك فمن أنت ؟ عذرا لأبي علي الذي يرقد منسيا في مقبرة الغرباء  بدمشق فقد وضعنا كلمة اكتب مكان كلمة ارسم وكلاهما خط وكتابة ، ومن زاوية أبعد كان جبران خليل جبران هو الاخر يكتب فوق الماء حين يقول : إنما الناس سطور كتبت لكن بماء ، توجد كتابتان إذن الأولى فوق الماء والثانية فوق جذع نخلة فإذا كانت الأولى واضحة فما دلالة الثانية ؟في علم الدلالة هناك نوع من السياق يسمى السياق العاطفي ، يحدد هذا السياق درجة القوة والضعف  في الانفعال ..ويقع عنوان المقدادي في هذا السياق ، وهو في مقامته عن بغداد يذكر النخل الذي حورب في بغداد وهتكت حرمته ، فقد ازيلت مئات البساتين من بغداد في صمت مريب من الحكومات هذه البساتين كانت تلطف المناخ وتضفي البهجة والحبور  ، أصبحت بغداد قطعة من الكونكريت الأصفر ووربما الاغبر بلون التراب ، فعلى أي جذع يكتب وما زال نخيل بغداد وكل المدن يقتل عمدا وقصدا ؟    تبفى أعمدة النخل الخاوية مجردة من سعفها بل من زهوها كان يجب ان تصان هذه الخضرة وتسور بصفتها محميات ، الحديث في الممكن المعقول وكل شيء خارج العقل …النخلة وجذعها أصبحت خارج الاهتمام لتحتل بغداد المركز الأول في التلوث عربيا والسادس عالميا كتب الشعراء فوق الماء وكتب كاظم المقدادي فوق جذع نخلة ، ابتكار من مخيلة نشطة ليكون العنوان علامة سيميائية بكل ما في العلامة من معان .