ليس سهلا أن تستمع إلى أخبار الجرائم الإرهابية فى مصر وأنت فى خارجها، فخلال الدقائق الأولى لا يتعدى الأمر كلمات قليلة على الموبايل، ثم تكون تفاصيل متناثرة، ولا يقلل من الوقع الثقيل حتى المكالمات مع القاهرة للاستعلام والمعرفة، وفى النهاية لا يوجد إلا ذلك الهم الثقيل على القلب والعقل الذى تدفعه دفعا بأن المصريين شعب يعرف كيف يكون الصمود. لم أكن قد ذهبت إلى أبوظبى منذ أكثر من عام، ولكن المدينة بدت كما لو كانت تستبدل حللها الجميلة طوال الوقت بما هو أجمل منها، وتدفع إلى الذهن بمقال حول كيف يمكنك أن تسابق الزمن فى التقدم، ولم أكن أعرف فى الوهلة الأولى أن المدينة سوف تكون أكبر من عمائرها كما سوف نرى بعد قليل. كانت المناسبة انعقاد مجلس إدارة معهد دول الخليج العربية فى واشنطن الذى قمت بتأسيسه خلال العام ٢٠١٤ فى العاصمة الأمريكية بهدف إقامة الجسور الفكرية والأكاديمية بين دول الخليج والمؤسسات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية. ومنذ بداية العمل فى المعهد فى ٢٠١٥ فإن التقاليد جرت على عقد مجلس إدارته مرة فى واشنطن فى الخريف، ومرة أخرى فى أبوظبى خلال الربيع. وبصفتى «المؤسس» أصبحت رئيسا «شرفيا» لمجلس الإدارة إلى جانب رئيس مجلس الإدارة الحالى السفير فرانك ويزنر سفير الولايات المتحدة السابق فى القاهرة. وربما أعود مرة أخرى للحديث عن تجربة المعهد، ولكن ما حدث فى طنطا والإسكندرية كان مروعا للجميع، ومع ما جاءنى من تعازى زملاء المجلس، ومن المسؤولين فى دولة الإمارات ممن التقينا بهم، فإن بعدا هاما فى محاربة الإرهاب فرض نفسه.
فى لقاء عمل مع الدكتور على راشد النعيمى، رئيس مجلس إدارة «جمعية هداية»، تعرفت على جهد كبير تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال الجمعيات الأهلية لمحاربة التطرف والإرهاب. من ناحية فإن الدولة الإماراتية تشارك فى الحرب ضد الإرهابيين عملياتيا من خلال مشاركتها فى الحرب سواء فى اليمن أو ضد داعش؛ ولكن الناحية الأخرى للحرب ضد الفكر الإرهابى أصبحت جزءا رئيسيا من المواجهة التى تجرى بوسائل متنوعة من بينها جهود «هداية» للتعامل مباشرة مع كل أشكال الغلو والتطرف، ليس فقط داخل دولة الإمارات وإنما أيضا فى الدول التى تعشش فيها صراعات المتشددين وتدفعهم إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. هؤلاء يوجدون بكثرة فى الأماكن التى نعرفها ويأتى منها الإرهابيون على كافة أشكالهم، وهناك مصانع لتشكيلهم ووضعهم على الدرب الإرهابى فى دول الاتحاد السوفيتى الإسلامية السابقة، وفى محور باكستان/ أفغانستان، والي من، والصومال، حيث توجد مدارس ومعاهد توليد الإرهابيين.
السند الرئيسى لهداية فى عملها يتم من خلال جامعة الأزهر وعلمائه فى مصر وفى مقدمتهم الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب. ويبدو أن جهود المؤسسة الأزهرية فى مجال مقاومة التطرف أكبر مما هو ظاهر فى مصر، فهو ممتد إلى العديد من الدول العربية رغم ما فيها من مقاومة سلفية، إلا أن الدعوة إلى إسلام متسامح تجرى على قادم وساق. وربما كانت آخر المبادرات الهامة ما سوف يحدث أثناء زيارة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان إلى مصر قبل نهاية هذا الشهر، والتى من ناحية كسرت فتورا وبرودا بين الأزهر والفاتيكان أثناء تواجد البابا بنديكت فى البابوية، ومن ناحية أخرى فإنها سوف تكون وسط حوار واسع بين كل الديانات العالمية والتى تجمعها قيم إنسانية مشتركة ضد التطرف والكراهية. مثل ذلك سوف يصيب هدفين نحتاجهما بشدة هذه الأيام: أولهما أن علماء المسلمين يحاربون من أجل استعادة الدين الإسلامى من مغتصبيه؛ وثانيهما أن المغالاة والتطرف والكراهية كلها لم توجد فى كل الأديان فقط، ولكن واجب معالجتها ومحاربتها واقع أيضا عليها جميعا. «الفوبيا»، إسلاموفوبيا أو غيرها، أو أشكال التعصب ضد الآخر والغير، هى آفة من آفات الدنيا التى أعطتها التكنولوجيا الحديثة دفعات قوية وكافية لتحويل أشخاص عاديين إلى إرهابيين.
إن دعوة الرئيس السيسى بعد فترة قصيرة من توليه الرئاسة إلى «تجديد الفكر الدينى»، بل حدوث «ثورة دينية» تنقذ الإسلام مما أصابه على يد بعض من المنتسبين إليه يحتاج ليس فقط إلى الأزهر بكل ما له من مكانة وما لديه من إمكانيات، وإنما إلى مؤسسات أهلية تنظر إلى المجتمع وتعمل على إزالة ما فيه من تمييز، وتنشر ما يحتاجه من تسامح، وتفعل كل ما له علاقة بمحتوى «المواطنة» شكلا وموضوعا.
الدعوة التى دعاها الرئيس لإنشاء المجلس الأعلى لمقاومة الإرهاب، وتنظيمه الذى يقوم على قدمى المكافحة الأمنية، والمواجهة الفكرية، هو استجابة لدعوات كثيرة بأن تكون الحرب ليس فقط على الإرهابيين، وإنما على الإرهاب بكل ما يعنيه ذلك من أبعاد. وفى النهاية بقى أمر هام وهو أن صلاح مصر كلها هو الفتح الأكبر، والمقاومة العظمى، والخلاص المقدس، من الآفة الإرهابية التى تجد جذورها فى كل ما يعترينا من تخلف ورجعية وتراجع. وبصراحة تامة إذا كانت استراتيجية الإرهاب تقوم على الخوف، فإن الإستراتيجية المضادة لها لابد أن تقوم على الأمل واليقين فى مستقبل يبحث فيه المصريون ليس فقط عن تفادى الخوف وإنما الحصول على السعادة.
* نقلا عن “المصري اليوم”