لا نغالي إذا زعمنا أن شعر الهايكو هو نتاج تراكمي لاحتفالات الربيع وطقوسه وهو ناتج للتقاليد الثقافية العريقة لليابان، وهو في جذوره ضارب في القِدم، فما إن تنتهي طقوس زهرة الساكورا ومراسيمُها الكبرى حتى تعقبها طقوس زهرة الأزاليا (في شهر ماي) الأقل شعبية..
ففي هذه الاحتفالات التي يسهم فيها الغناء والرقص يكون للشعر والشعراء حضورٌ مبهج حين يقوم أحدهم بإلقاء شعر عَفْوي أو ارتجالي ليُجيبه الآخر ثم ليواصل الثالث بالنسق ذاته وهكذا ينتج من هذه العفوية وسرعة البديهة والارتجال نمط شعري يكون خليطاً من فن الساتير إلى الحِكَم إلى إضاءات ساذجة أو مرحة لكنها تنطوي على تناغم إيقاعي مع عمق معنوي يشدُّ السامع، وفي جميع الأحوال لا يكون وصف الطبيعة غائباً ولا الزمن. وبدا هذا اللون الموسمي من الشعر مدهشاً وصادماً في دلالاته وسوانحة الخاطفة المختصرة وكذلك في مفرداته وتجنيسه البلاغي وسهولته الممتنعة؛ كل هذا ضمن إيقاع موسيقي وصياغةٍ انصقلت ورست على تركيبٍ من بيت واحدٍ يضُّم سبعة عشر مقطعاً صوتياً متوزعاً على ثلاثة أسطر عمودية أو عبارات شعرية بنسق يكون لكل من الأول والثالث فيه خمسة أما الثاني فله فيه سبعة مقاطع صوتية. ولا وجود للقافية في هذا الفن!
أطلق على هذا الشعر الوليد في القرن السابع عشر هوكوHokku في أول ظهوره و “هاكاي نورينجا” عندما ينتظم ضمن قصائد أطول. أول من أطلق عليه التسمية الحالية هايكو Haikuهو الكاتب الياباني المجدد ما ساوكا شيكي M. Shiki(1876-1902) في نهاية القرن التاسع عشر وقد اختصرها من (Hakai No Ku) حيث تعني شعر الهكاي؛ وهي الفترة ذاتها التي انفتحت فيها اليابان على العالم ثقافياً بعد طول حصار (راجع الحلقة الأولى) ما يفسر انتقال التسمية الحديثة يومئذ الى أوربا والعالم، ولطالما رافق اللوحات اليابانية التي انبهر بها العالم بعض أشعار الهايكو. وأطلقت هذه التسمية وعُممت على كل هذا النمط من الشعر بما في ذلك الذي سبق هذه التسمية..
والهايكو هو نتاج اللغة اليابانية ذات المقاطع الصوتية التنغيمية، وهو يحمل هذه الصفة في أهم خاصية لهذا الشعر والتي مررنا عليها وهي السبعة عشر مقطعاً صوتياً (أون on) والتي تتوزع في نسق من ثلاث عبارات شعرية والتي كتبت بلغتها الأصلية على أعمدة ثلاثة وتحولت وفق اللغات الأوربية الى الأسطر الثلاثة بعدد ثابت هو:5/7/5.
ويتضمن الهايكو مرجعية الفصل السنوي، الذي طالما يكون تلميحا أو ترميزاً وصفياً لما يتصف فيه من سمات طبيعية مثل الرعد والمطرللخريف أو نقيق الضفادع أو الملابس الخفيفة للصيف، أو الزهور حسب مواسمها ..الخ يطلق على أشارة الفصل أو رمزه بتعبير (كيكَو Kigo) الذي يمثل الفصل أوالشهر .
ومما يجدر ذكره، أن الهايكو الياباني لم يعد شديد الالتزام بقاعدة البناء الفني أي قانون 17 مقطعاً فقد حدث تغيير يلجأ إليه الهايكست كلما حرص على المعنى أو اللمعة التصويرية أو السانحة المختصرة فيقصر العبارة أو يمدها نقصاناً أو زيادة، كما هو حال الهايكو الحديث (جندايGendai) وقد أطلق على هذا بالهايكو الحر، مع المحافظة على السمات الأخرى للهايكو التقليدي؛ مثل القَطع (كيروKiru) ويتسم هذا النظام بالقطع بين عبارة شعرية وأخرى التي تليها حيث توجد صورتان او فكرتان تفصلهما كلمة قطع (كيريجي) وهي علامة فاصلة بين عنصرين أو لونين متضادين. إن هذا النظام يمكن مقاربته في اللغات الأوربية حيث يقارب المقطع الياباني أون المقطع الإنكليزي (syllable) .
أما في لغتنا العربية فيصعب جداً مقاربته لكون العربية لغة غير مقطعية ناهيك عن كون الحروف الجوفاء قليلة فيها. كذلك لم يعد حضور عنصر الطبيعة هاماً أو شرطااً كما كان في الهايكو التقليدي، أي أصبح للسانحة والمفارقة التصويرية وعنصر الصدمة المدهش أكثر أهمية من التشبث بالجانب الهيكلي في الشعر الحديث من الهايكو..
وفي جميع الأحوال تبقى قصيدة الهايكو لمّاحة لا تبوح وأنما تشد كل الشيئيات المحسوسة فيها لتجعل التكملة والانشغال الوجداني أو العاطفي أو الفكري من نصيب المتلقي الواعي، وبتعبير آخر لاتكن القصيدة مؤطّرة بحدود بل تجد أن الأفكار سائبة تحتمل تأويلات أو تنأى أحيانا عن التأول الى التشكيل والتصوير مع نصيب لعنصر المفارقة أو المفاجأة!
وللتمثيل على ما ورد، تحضرنا هذه النماذج من الشاعر الشهيرماتسو باشو(1644-1694):
الغدير القديم
وقفزات ضفدعة في
خرير المياه
وله أيضاً:
في أول مُزنة باردة
حتى ليطمح القرد في
معطفٍ من حزمة قش
وفي الحقيقة أن الشاعر باشو هو نفسه قد خرج عن نظام السبعة عشر مقطعاً في مرات قليلة الى ثمانية عشر مقطعاً بنسق 6/7/5 في الهايكو التالي:
الريح الهابة من جبل فوجي
جلبت لي مروحتي!
هديةً من إيدو
أول ظهور للهايكو في الغرب وبغير لغته اليابانية هو بفضل القنصل الهولندي في ناغازاكي الشاعر هندريك دويف (1764-1837) الذي شهد صعود شعر الهايكو خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر ودونكم هذا من شعره:
إمنحيني ذراعيك
بسرعة برق الصواعق
وسادةً لي في رحلتي
في عام 1906 نشر لأول مرة في فرنسا من قبل بول لوي كوشو.
ومن الملف أن الذي نقل الهايكو إلى أمريكا هو الشاعر الياباني يون ثوغوشي (1850-1935) حيث نشر أشعاره في مجلة ذَ ريدر.
ثما مارسه أبو التصويرية عزرا باوند الذي يعتبر الرائد الأول للهايكو في اللغة الإنكليزية عام 1913، وأشهر قصائده الهايكوية طراً ” في محطة المترو” ثم تلقفه كبار الشعراء أمثال هيوم، ورولاند فلنت و غراد ايكن وأكتابيو باز و توماس ترانسترومر …وتم ترجمته إلى اللغات الأخرى فحقق شيوعاً في أوربا الشرقية ثم عمّ القارات حتى وصل الى العالم العربي وظهر في المغرب وفلسطين وسوريا والعراق… وستكون لنا في ذلك وقفة، سريعة مع مختارات لأهم الشعراء الذين مارسوه في العراق، ولي أن أشكر كثيراً الشعراء الذين بعثوا لي نماذجَ من شعرهم مرفوقة بخلاصات عن تجربتهم، ومن يروم أن يمدني بما لديه فله أن
يكاتبني على بريدي، وإذا لم يظهر هنا فبوسعهم الوصول عن طريق مقالات أخرى أو بصفحاتي على بعض المواقع..