-1-
ثمة سؤال مركزي يقول :
هل رأيتم مَنْ يزهد في المناصب العالية التي تُتيح له أنْ يكون ممن يأمر ويطاع وممن يتحكم في شؤون البلاد والعباد ؟
وبعبارة اخرى :
انّ هناك من يزهد في الأموال ، فهل هناك من يزهد في الكراسي ؟
واذا وُجدَ هذا الزاهد فمن اية شريحة هو ؟!
-2-
إنّ التسابق المحموم بين سياسيّ الصدفة، على المناصب والكراسي في (العراق الجديد)، لا ينبغي أنْ يحجب الرؤية الصحيحة للواقع، الذي عاشته أمتنا المجيدة عبر مسيرتها الطويلة ..
إنَّ هناك قوافل عديدة من الزاهدين، رفضتْ أنْ تتولى المناصب الرفيعة في ظلّ كيانات ظالمة …!!
ولا نعدم أنْ نجد في بعض المعاصرين أيضاً من رفض العروض السلطوية ..
الا أنهم ليسوا كثيرين ..
-3-
يحدّثنا (ابن كثير) في كتابة (البداية والنهاية) ج13 ص 3618 عن (ابن الأثير) صاحب جامع الأصول والنهاية { وكان مقامه في الموصل ، وكان معظّماً عند ملوك الموصل ، فلما آل الملك الى نور الدين أرسلان …
أرسل اليه مملوكه (لؤلؤ) أنْ يستوزره فأبى } !!
لقد أرسل الملك نور الدين مبعوثه الخاص الى (ابن الأثير) ، ليشعره بانّ الملك راغب في اختياره وزيراً له ، والوزارة منصب خطير ، ومقام عال يتمناه الكثيرون من عشاق السلطة .
والملاحظ هنا :
ان الطلب جاء من قبل (الملك) ولم يكن بسعيّ شخصيّ من (ابن الأثير)
وكان الجواب هو الرفض القاطع، وهذا هو مصداق من مصاديق الزهد في أعلى المناصب ..
وحين أُبلغ الملك بجواب (ابن الاثير) السلبي ، سار اليه بنفسه ، وعلى حدّ تعبير (ابن كثير) :
( ركب السلطان اليه ،
فامتنع أيضاً )
وهكذا بقي الرجل مُصراً على موقفه ، إلاّ انه علّل رفضه للوزارة – حين جاءه بالملك – بالقول :
” قد كَبُرتْ سنّي ،
واشتهرتُ بنشر العلم ،
ولا يصلح هذا الأمر الاّ بشيء من العسف والظلم ،
ولا يليق بي ذلك ،
فأعفاه “
والملاحظ هنا :
إنّ كبر السن كان من جملة الاعتذار
بينما نرى بعض من تجاوز (الستين)، من السياسيين المحترفين المعاصرين، أشد تعلقاً بالسلطة حتى من الشبان ..!!
-4-
إنّ الزهد بالمناصب العليا ، كثيراً ما يبادر اليه العلماء … (وابن الاثير) منهم ، ولهذا قال للملك :
( واشتهرتُ بنشر العلم )
وكأنّه يريد ان يقول للملك :
انني اخترت بواّبة العلم للولوج منها الى قلب المجتمع والتاريخ … لا الكرسي المحاط بالحمايات ..!!
والفرق بينهما كبير
انّ العالِم يموت ، ولكّن علمه لا يموت ، فتبقى كتُبه وآثارُه ناطقة بما قدّم للعلم وللثقافة والمعرفة من نظرات ونظريات ،وكلُّ ذلك كفيل ببقائه لا على مستوى الجسد بل على مستوى الفكر والروح …
-5-
انّ (ابن الاثير) العالِم الذي استوعب الكثير من الحقائق السياسية والاجتماعية والانسانية ، قال أيضا :
” ويصلح هذا الأمر – اي أمر السلطة – الاّ بشيء من العسف والظلم ، ولا يليق بي ذلك “
وهذه النقطة بالذات ، مهمة للغاية ، ذلك انّ القبول بالوزارة ، معناه المسؤولية المباشرة عن كل ما يقع من المظالم والاعتساف هنا وهناك وليس من شأن العالم أنْ يصطف مع الظالِم بحال من الأحوال .
-6-
انّ عشاق السلطة عليهم أنْ لا ينسوا أنّ ايام السلطة معدودة، وانّهم سيحاسبون عليها حسابا عسيراً ، يوم ينادى المنادي :
” وقفوهم انهم مسؤولون “
والسعيد من استطاع ان يضمن النجاة يوم الحساب … وليس الذي خاض مع الخائضين .. ونسي الوقوف بين يديْ رب العالمين …
-7-
لقد تردّد في الأعلام ان ” الحقائب الوزارية ” في العراق الجديد ، أصبحت من السلع المعروضة للبيع ..!!
وانّ بعضها بيعَ بالملايين من الدولارات !!
قيل : وصلتَ الى 15 مليون دولار …
والمشتري لا يدفع هذا الثمن اذا لم يكن ضامنا لأضعافه …
وهكذا استشرى الفساد فأرْهَقَ البلاد والعباد .