نشأت وترعرعت في مدينة فقيرة كانت تسمى مدينة الثورة وهي تسمى الآن مدينة الصدر. كان يسكن شارعنا خليط من كل الأديان والقوميات والجنسيات المختلفة في وئام ومحبة وسلام. ففي شارعنا تسكن عوائل شيعية آتية من محافظات مختلفة وفيه أيضا ً عائلة تركمانية تسكن في طرف الشارع الأول وأخرى كردية في وسطه, كانت هناك عائلة من الصابئة وأخرى سنية من الموصل في نفس الشارع, وكان يقطن شارعنا أيضا ً أبو زياد الفلسطيني وزوجته المصرية وفي البيت المقابل لبيتنا أم رامي وهي لبنانية متزوجة من فلسطيني. كل يوم كان يقطع الشارع شخص أسمه قاسم أبو النون يمشي مترنحا ً لسكر فيه وقنينة العرق في جيبه ملفوفة بكيس ورقي. عندما كنا صغار كلنا ينتظر مجيء قاسم أبو النون وهو طويل القامة جدا ً لنضحك على مشيته فقدم في الشارع والأخرى في مجرى المياه الآسنة حتى يصل بيت أمه المسكينة. لم يعترض أحد في يوم من الأيام على قاسم أبو النون لأنه كان يشرب الخمرة. لم أسمع في حياتي كلها أحد يسب ويلعن صحابة الرسول أو زوجاته أو ينالهم بسوء, حتى أن أحدى عماتي كانت ومازالت أسمها عائشة. لم أر النقاب في حياتي وقد صادفته متعجبا ً ومندهشا ً في بلاد الغربة ولم أر رجلا ً بلحية طويلة وثوب قصير قط إلا في بلاد الغربة.
ربما رسمت صورة وردية لحالة التعايش السلمي في حي من الأحياء الفقيرة في بغداد في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات لكن ذلك لايعني بأن المجتمع العراقي كان خاليا ً من الطائفية والتمييز العنصري بالخصوص ضد الكرد والشيعة. نعم, كانت هناك طائفية وتهميش داخل الطبقة السياسية الحاكمة وبعض مؤسسات الدولة ومنها المؤسسة العسكرية والأمنية, ولكن, لم يكن لتلك الظاهرة وجود بارز على المستوى الاجتماعي وخير مثال على ذلك ظاهرة الزواج المختلط بين السنة والشيعة والكرد والعرب التي تنتشر بشكل كبير في العراق.
قبل أيام قليلة خرج شخص قميء, فرد ناقص الهيئة غير مكتمل التفاصيل مع مجموعة صغيرة, خليط من البالغين والمراهقين وهم يرددون شعارات طائفية ويلعنون الصحابة بشكل علني وسط الشارع في الأعظمية في ظاهرة غريبة لم يألفها المجتمع العراقي من قبل, أي الوصول إلى هذا المستوى من الحقد والكراهية وردات الفعل الغير مسؤولة من قبل البعض. ربما يقابل هذا القميئ في فعله ما يوازي تصريحات طائفية أنطلقت في بداية التظاهرات في المنطقة الغربية أو أقوال طه الدليمي وهو يطل علينا من على شاشات التلفزيون بخطاب طائفي ملؤه حقد وكراهية. يقال أو يقول هذا القميء أنه شيعي وهو في رئيه يدافع عن مظلومية الشيعة ويقول طه الدليمي أنه سني وهو يعتقد بأنه يدافع عن السنة ولكن في الحقيقة لاذاك شيعي ولاهذا سني فهما يتبعان فصيلة واحدة من البشر الا وهي فصيلة الحاقدين الضيقي الأفق الكارهين للآخر العنصريين الذين لايرون أبعد من مدى أبصارهم. بل هم نفر من المأجورين مدفوعي الثمن تقف ورائهم أجندة خارجية لها أبعاد سياسية وأيدلوجية بخطابهم الذي يؤجج الفتنة الطائفية ويحرض أبناء الوطن الواحد. فالننظر أعزائي من الذي يسب ويشتم ومن الذي يؤجج نار الطائفية, فهل لأولك القوم من وزن يذكر حتى يكونوا محسوبين على طائفة معينة تتضرر بجريرتهم؟ وعلى سبيل المثال أن نفس المدعو ثائر الدراجي يهاجم المرجع اليعقوبي وبعض رموز الشيعة وعلمائها وليس السنة وحسب. علينا أن نعرف من الذي يسب الصحابة وهل له وزن بين أبناء طائفته التي ماكان في يوم من الأيام السب واللعن من أخلاقها.
ولكن, ومن جانب آخر, أنا لاأعتقد بأن المشكلة الحقيقة هي في شخص هذا الذي يلعن الصحابة المدعو ثائر الدراجي أو في طه الدليمي إنما المشكلة تكمن في طبيعة الخطاب السائد في المجتمع الذي بقوده رجال الدين حين تخلى المثقفون عن لعب دورهم في رسم ماينبغي أن يكون عليه هذا الخطاب لينسجم مع تطلعات أبناء هذا المجتمع. فنحن وبإختصار شديد أمة تعيش في التاريخ الذي تعشقه, فقد جعل منا شيوخ الدين أناس تاريخيون نعشق الماضي ونذوب فيه حيث نأخذ هويتنا الاجتماعية والفردية منه ونفهم معنى الحياة ومايعني المستقبل من خلاله. نعم, فوسط هذا الجو التاريخي وقليل من الشد السياسي الذي يمثل مصلحة للبعض يبرز أشخاص كثائر الدراجي وطه الدليمي, فأمثالهم وأسوء منهم يملؤون المجتمعات ولكنها تتجاهلهم وتحدهم بالقانون. النازيون الجدد والعنصريون والحركات المناهضة للإسلام السياسي والحركات الإسلامية الراديكالية لها منظماتها وتجماعتها في أوربا ولكن هم تحت أعين مؤسسات الدولة الأمنية وينبذهم المجتمع بل يحاربهم بإعتبارهم ظواهر شاذة. أما نحن, التاريخيون فنقيم وزنا ً لفلان وعلان فقط لأنه يمتلك الجرئة على أن يكون شاذا ً بفعل يستفز به مكون معين أو طائفة معينة.
أن من نتائج طريقة التفكير الماضوية تلك هي تفجير حزام ناسف كان يلبسه إنتحاري غارق في الماضي ومعنى التاريخ وسط الزوار الشيعة الذين كانوا يؤدون طقوسهم الدينية في نفس المكان واليوم الذي كان يهتف به ثائر الدراجي وسط الأعظمية. لم يكن هذا التفجير الأول ولن يكون الأخير فالشيعة كمكون وطائفة ينظر إليها من قبل البعض على إنها طائفة مشركة ورافضية ويستحق أبنائها القتل والتنكيل وبجولة بسيطة في مواقع الانترنت يمكن لأي كان أن يجد الآلاف من مقاطع الفيديو على اليوتوب من خطب جمعة ولقائات تلفزيونية ومقابلات مع رموز دينية تعيش في التاريخ تكفر وتلعن وتسب وتدعو للقتل بخطاب يفيض طائفية وكره وحقد غير مبرر. الأفضع من ذلك أن هناك من داخل العراق من السياسيين ومن رجال الدين ممن يتبنى هذا الخطاب ويدعوا لقادسية ثالثة ضد الشيعة بحجة أنهم إيرانيون صفويون مجوسيون عباد للنار وهكذا. في المقابل نجد من السنة ممن هم لاناقة لهم ولاجمل ممن يتعرضون للتهجير الممنهج على يد المليشيات المدعومة من قبل الأطراف في الداخل والخارج ممن لهم مصالح في العراق لتأجيج السعير الطائفي الذي يذهب ضحيته الأبرياء بلا شك.
لقد رسمت صورة شبه وردية في بداية المقال لمجتمع كان مازال قويا ً ينعم بالسلم الأهلي لأقارنها بصورة المجتمع اليوم, ذلك المجتمع الهش الذي يؤثر فيه نفر قليل جدا ً كالدراجي وطه الدليمي وممن يريد أن يمزق نسيجه الاجتماعي لأهداف سياسية ومصالح رخيصة. أن عودة المجتمع لما هو عليه بحاجة لجهود أبنائه الذين يتصدون لرؤوس الفتنة وينبذون كل ماهو شاذ يدعو للعنف والكراهية بالخروج من قمقم التاريخ والدخول في رحاب الحاضر والمستقبل. لا أعرف دوافع فعل ثائر الدراجي الذي ربما يكون شخص مدفوع الثمن ولكني أعرف بالتأكيد أن المواطن العراقي سنيه وشيعيه يتعرض يوميا ً وبشكل منظم لخطر الإرهاب والقتل على أيدي الجماعات المسلحة بالخصوص التكفيرية منها. هناك مسؤولية على الدولة بالحد من الخطاب الذي يدعو للعنصرية وللكراهية وإزدراء الأديان والرموز والمقدسات لأي طائفة وعلى المثقفين ورجال الدين محاصرة تلك الخطابات الطائفية وبعلمي أن بعض رجال الدين والمثقفين الشيعة قبل السنة كان لهم موقف مشرف للحفاظ على وحدة العراق وسلامة أبنائه من الطائفيين من خلال إستنكارهم لما قام به هؤلاء النفر الضال, وفي نفس الوقت, لابد من وقفة جادة لهذا القتل الممنهج الذي يتعرض له أبناء الشعب العراقي من قتل وتدمير بسيارات مفخخة وأحزمة ناسفة وإستهداف للمقدسات أيضا ً من قبل الجماعات الإرهابية التي لابد أن تدان وتشجب أفعالها من كل أبناء الوطن الواحد ومن شيوخ الدين من كل الطوائف ومن المثقفين لوقف نهر الدم الذي يجري منذ عشر سنوات وبلاتوقف.