22 ديسمبر، 2024 7:54 م

من الذي صنع داعش والفكر الداعشي ؟

من الذي صنع داعش والفكر الداعشي ؟

التطرف بمعناه البسيط يعني الخروج عن الوسط والبعد عن الاعتدال ، ويكون باعتماد طرق في التفكير والسلوك خارجة عن المألوف …والايمان بصحتها والاستعداد للتضحية في سبيلها .

والتطرف قرين التعصب ، الذي يعني عدم قبول الاختلاف والتعدد ، ويلازم الاجبار والاكراه وحتى عقاب المخالف ، ذلك ان المتطرف المتعصب يسقط وعيه المنحرف على كل وعي يختلف عنه ، وذلك بوصفه الوعي الاعلى الذي لا يتقبل الاختلاف ..ويعتبر كل فكر مخالف نقص وخلل وانحراف عن الحق ، لا وبل معصية أ تستوجب هدر دم المختلف معه .

وللعصبية والتطرف تايخ طويل في مجتمعاتنا ، فهذا معد بن يكرب الزبيدي يقول : ” وهل انا الا من غزية ان غزت….غزيت وان ترشد غزية ارشد ” …ورغم ان الاسلام جاء ثورة على هذه العصبية التي وصفها جيدا من حيث كونها مهينة للانسان ومفتتة للمجتمعات ولا يمكن قيام مجتمع جديد عادل وموحد بوجودها ، الا ان الكثير من بقايا العصبية البدوية مازالت معششة في وعينا الباطن كأفراد وفي وعينا الظاهر كجماعات . ومازالت قيم البداوة ، وخاصة عصبيتها وتطرفها تتحكم في سلوكيات مجتمعاتنا المدينية الحديثة العهد بالتحضر نسبيا .

والتطرف يزدهر ويقوى في البيئة التي تعاني خللا في منظومة القيم او الحكم المنحرف ، كما انه امر نسبي : فالفرد والجماعة يوصفون بالتطرف ان خرجوا عن معيار السلوك والفكر المعتدل ، كما ان السلطة تصف غيها بالتطرف متى اختلفوا معها في الموقف ، وبالتالي تمنح نفسها حق محاربتهم بطرق باتت المبالغة في وحشيتها وتطرفها امرا معروفا في بلادنا العربية .

وقد تلقف الحاكم الاميركي للعراق المحتل ميراث عصبيتنا وتطرقنا ، فكان أن بدأ عهده في العراق المحتل بسن قوانين الاجتثاث التي لو نطق بها همسا في اميركا لازيح عن ظهر الوجود …فأسس بذلك لاولى وأقوى بذور التطرف التي ستعصف بالعراق .

جاءت حكومات مابعد الاحتلال المباشر لا لتحاول تصحيح الاخطاء والشروع في عملية بناء جديدة تقوم على طي صفحة الماضي وترك القضاء يقتص ممن تثبت عليهم تهم جنائية او سياسية ، فوسعت من دائرة الاجتثاث ، واحتضنت تطرفا لم يعرف له تاريخنا مثيلا ، فمارست سياسة قصيرة النظر وحتى اجرامية بحق كل معارض لها حتى لو كان معارضا بالراي ، فاثبتت أنها ليست اهلا لبناء دولة ولم تزد عن كونها سلطة تنفّس عن ثقافة اجتثاثية اكثر عنفا وتعصبا وتطرفا …وجعلت من سياسة الاقصاء والتهميش والقمع سياسة رسمية للدولة العراقية الجديدة ، وسخرت الالة الاعلامية والمؤسسة الدينية لنشر ثقافة تسفيه الاخر وتحقيره والحط من كرامته والحض على قتله في وضح النهار .

قام على تغذية هذه الفتنة اعلاميون وسراق المال العام وسياسيون فاسدون ومعممون من الاطراف ، تشبعوا بكل حقد التاريخ المزور ومرثياته الموضوعة …واقحموا في معاركهم هذه الله وأئمته وكل الرموز الدينية واخترعوا الروايات التاريخية وقولوا شخصياتها مالم تقل من اجل تأجيج الفتنة ، وبالتالي صنع تطرف عصبي استقطابي في الشارع العراقي جعل العراق على مدى 12 سنة ساحة للتفجيرات والحروب والدماء المسالة بلا هدف .

وداعش كتنظيم يمثل غاية مايمكن ان يصله التطرف والتعصب من سلوك ونهج اجرامي ، والفكر الداعشي لا يقتصر على داعش فقط وانما يشمل كل جماعة اختطت لنفسها ذات النهج والسلوك المتعصب والاجرامي ، وهو فكر وسلوك ينتشر وبنجاح ساحق في العراق واخواته العربيات بين مختلف المكونات والمجموعات العرقية والدينية للاسباب اعلاه وماسنورده لاحقا .

حومة التطرف المنفلت جعلت شبابنا يتركون صنع الحياة والاندماج حتى النهاية بماكنة قتلها ، فهذا مع داعش من اجل الله ودولته الموعودة ، وذاك في الحشد والميليشيات من أجل “لبيك ياحسين ” ، في حين لا الله بحاجة الى من

يقتل من اجله ، والحسين ضحى ليس من اجل الموت بل من اجل حياة افضل …وقد اعمى التطرف كلا الجانبين ، ونسوا انهم ليسوا سوى ادوات تستغلها قوى اقليمية ودولية ولصوص سلطة يعتلون جثثهم من اجل مصالح انانية لا علاقة لله ولا لاولياءه الصالحين بها ، وكل الشعارات والهتافات والرايات التي ترفع انما هي من مستلزمات النصب والدجل والضحك على اولاد ” المكرودة ” .

يجب ان لا ننخدع بظواهر الامور ، فما نراه من تطرف ديني هو في الواقع تعبير عن اوجاع سياسية واجتماعية واقتصادية وازمة هوية ثقافية تعاني منها شرائح اجتماعية كبيرة وجدت في التطرف والغلو الصيغة البديلة للاستغاثة بعد ان سدت امامها كل الابواب .

التطرف الحالي سببه الرئيس فشل النظام السياسي والقيمي القائم ، والمتطرفين ضحايا فشل النظام الذي لكي يغطي على فشله التام في كل شيء لم يجد الا في الشحن الديني والطائفي وسيلة وحيدة لاطالة عمره واطالة زمن هيمنته على الامور ….ولو شعر الناس ان هناك أملا بالاصلاح لخفت حدة العدوانية والتطرف ، ولو تم القضاء على البطالة لانصرف الشباب الى العمل المنتج بدلا من الانتماء للتنظيمات المسلحة المتطرفة كمصدر رزق وحيد مفتوح امامهم .

أن التجارب العالمية تشير بشكل واضح تماما – الانتصار على التطرف لا يكون بقوة السلاح وحده وانما ببرنامج مصالحة وطنية متكامل فكريا وتثقيفيا وسياسة وطنية عاقلة وحكيمة ( كمثال تجارب ايرلندا وجنوب افريقيا )، فلا ادري لماذا الاصرار على الحل العسكري الذي يعبر بنا كل يوم من نكبة الى اخرى …وكيف نفكك بنى التطرف في البلد مادمنا ننتهج في نفس الوقت سياسة وثقافة وسلوك وبشكل رسمي ، تشجع على تناميه واستفحاله ؟

علينا ان نعي ، بما تبقى لدينا من عقل ، ان تطويع التعصب والفتنة والاجتثاث الفكري والمادي عبر القوننة والتمأسس ، سوف لا تقضي على داعش وحسب ، وانما ستخلق ماهو اسوأ من داعش بكثير، علاوة على اطلاق سطوة المجموعات المسلحة المنفلتة لتدير البلد بمنطق شرعة الغاب .

هذه الافكار لا تصلح لدول ولشعوب ماقبل التاريخ ، ولا نرضى ان يحكم بلدنا اليوم بمثل هكذا منطق ..او بالاحرى اللامنطق …فلن تقودنا هكذا سياسة ونهج لا الى دولة ولا الى مجتمع حي …فما يجري من احداث جعل العراق والعراقيين فرجة للعالمين ومصدر تندر لكل من هب ودب من خلق الله .. وهو امر يصيبنا في الصميم بعد ان كنا رواد التاريخ وقادة الاحداث في هذه المنطقة .

ويجب ان نعرف ان انتصار عقائد الشرليس بسبب قوة الاشرار ، وانما بسبب صمت الاخيار …فصمتنا يخلق داعش وغير داعش ، وصمتنا يجعل السلطة توغل في خلق الاعداء المتجددين وتسويد حياة الناس …كفانا نكون معبرا وساحة لصراعات الاخرين ” فليس هناك من طبخة سياسية في المنطقة الا واميركا تعدها ، والغرب يوقد تحتها ، وايران ومواليها وعربان الفتنة وشيوخها يتبلونها ، لتاتي اسرائيل وتأكلها ، أما نحن فكفاية علينا غسل الصحون من بعدها …”