22 ديسمبر، 2024 10:07 م

من الذاكرة مهرجان السماوة للشعر الشعبي 1972

من الذاكرة مهرجان السماوة للشعر الشعبي 1972

تعتبر المهرجانات والملتقيات الشعرية تقاليد ثقافية مهمة وضرورية لادامة المشهد الابداعي وتفعيله ، فهي تسهم الى حد كبير في تنشيط الحراك الثقافي وابراز التجارب الجديدة واشاعة روح المنافسة الابداعية الحرة بين هذه التجارب لتقديم الأفضل ، وهذه النتائج ـ بالتأكيد ـ مرهونه  بالنوايا الطيبة للقائمين على المهرجانات والادارات الجادة والمخلصة التي تعمل لوجه الثقافة لاغير ، ومؤمنة حقا بأهمية الابداع في حياتنا .

لقد شهد مطلع سبعينيات القرن الماضي حركة دؤوبة ومخلصة لترصين المشهد الشعري بالعطاء والتجارب المميزة للشعر الشعبي العراقي وكانت المهرجانات الشعرية التي انطلقت انذاك تؤسس لبداية شاهقة في طريق اشاعة قصيدة شعبية مسؤولة ومنحازة للانسان سيما وان شعراء تلك المرحلة كانوا هم جيل التحديث الشعري الستيني في القصيدة الشعبية  المهيمن على المشهد الشعري ، لذا  جاءت تلك المهرجانات منتجة ومدوية وظلت عبر عقود من الزمن مثابات شعرية تشع بعطائها الكبير ، وهذا ما برهنه مهرجان الشعر الشعبي الاول الذي اقيم في الناصرية في تموز 1969  حيث شهد حفاوة وابتهاج شعبي عارم اضافة الى ظهور تجارب شعرية كبيرة وكان ابرزها قصيدة ( خسارة ) للشاعر “علي الشباني”  وقصيدة (زينب ) لطارق ياسين وقصيدة ( سفر الروح ) لعزيز السماوي اضافة الى تجارب مميزة اخرى ، و السرالذي وراء نجاح هذا المهرجان هو ادارته الناجحة الممثلة بلجنته التحضيرية المؤلفة من الشعراء كاظم الركابي ، عبد الامير العضاض ، جبار الغزي . وجاء نجاح هذا المهرجان حافزا لتكراره في السنة الثانية في البصرة 1970 الا انه لم يكن كسابقه  بسبب انسحاب عدد من الشعراء احتجاجا على تدخل السلطة في اعمال المهرجان .

ولكن اتوقف عند مهرجان الديوانية / السماوة 1972 الذي شهد هو الاخر انقسام شعرائه بين القراءة في المدينتين حيث كان المقررللمهرجان انعقاده في مدينة الديوانية ولكن بسبب انسحاب الشاعر “علي الشباني” من رئاسة اللجنة التحضيرية نتيجة تدخلات بعض الطفيليين في اعمال اللجنة وتقديم استقالته سارع عدد من شعراء السماوة من بينهم الشاعر “اسماعيل محمد اسماعيل” الاتصال بـ ” الشباني ” والتنسيق معه لعقد مهرجان بديل في مدينة السماوة ، وهو ماتم فعلا حيث كان للشباني دور مميز في التحضير والاتصال بالشعراء ودعوتهم للمهرجان البديل.

انطلق قطار الديوانية ـ سماوة في ظهيرة ذلك اليوم التموزي 8/7/1972 بوفد كبير ضم شعراء ونقاد ومثقفين والذي خيم عليه الحزن بسبب ماتناقلته الانباء خبر اغتيال الكاتب التقدمي الفلسطيني غسان كنفاني . وصل الوفد السماوة  وكان قد سبقه اليها الشاعر الشهيد ( ابو سرحان ) قادما من الكويت ـ كان يعمل في مجلة الطليعة التقدمية ـ الذي قرر المشاركة في المهرجان مع وفد ضم الشاعر الفلسطيني محمد الاسعد والشاعر الكويتي عبدالله الدرويش وكذلك الشاعر الكويتي ـ من اصل عراقي ـ فائق عبد الجليل الذي اختطف في الكويت عند الغزو عام 1990 وظل مصيره مجهولا الى الان .

في اليوم الأول من ايام المهرجان الذي استضافته ساحة مركز شباب السماوة قرأ الشاعر كاظم الركابي قصيدته الجريئة ( ثلاث اغاني شجاعة ) أهداها للمناضل السوداني عبد الخالق محجوب فكانت قصيدة شجاعة حقا في زمن لايرحم الشجعان  :

       حبيبين

      جانوا ابكلبي حبيبين

      واحد بهالعين اضمه …وواحد بهالعين

      وجانت الغيرة توج مابين الاثنين

      اسألت كلبي

     هي عيني الا جانت با ليسار والا جانت باليمين

     الكيت كلبي ايودي دمه اعله اليسار ومايودي اعله اليمين

ثم جاءت قصيدة الشاعركاظم اسماعيل الكاطع لتؤكد هي الاخرى حيرة الانسان العراقي امام من يستكثر عليه حزنه وعذاباته ساخراً بمرارة :

         تكلي اضحك ؟ تريد اضحك ؟

         اطني شوي فرح واكطع نفس جرحك

         حتى انسه الحزن واضحك

         سن الماضحك بالعيد .. جا يوم الطبك يضحك

في حين كانت قصيدة الشاعر” ابو سرحان” ( للطيف وجه ابنادم ) تعطي لحلمه وجها اخر:

         للشمس للريح .. للطيف وجه ابنادم التعبان

         وآنه العابر التاريخ من اول جدم رسمت

         علامتها اعله حبات الرمل لليوم 

بعد ذلك دوتّ رائعة الشاعر “عزيز السماوي” ( أغاني الدرويش )  حيث اربك بكاء الشاعر ونشيجه المصاحب لقراءته القصيدة جو المهرجان وذلك في مشهد عاطفي لم يألفه جمهور الشعر من قبل وامتد صدى القصيدة الى خارج اسوارالمهرجان لما جسدته من صورمؤلمة لمعاناة و تضحيات الانسان العراقي :

       ولو حزني ثجيل وماتبرده ادموع

       مو كلبي عراق التنبض انهاره حزن وشموع

مؤمنا ان شمس الحرية لابد ان تشرق يوما على ارض التضحيات :

       اودمنه هناك ..

       عالجرفين ..

       يتلكه الصبح شمسين ..

       شمس تضوي الفرح .. للناس ..

       وشمس نخبز عليها الطين

وبالرغم من انشغال الجمهور بقصيدة ( اغاني الدرويش ) حتى بعد مغادرة “السماوي ” لمنصة الالقاء الا ان ( بيان للزمن المذبوح ) قصيدة الشاعر “علي الشباني” التي جاءت مباشرة بعدها استطاعت ان تعيد الجمهور الى الانصات و للمهرجان هدوئه لما يتمتع به “الشباني” من خصوصية في الالقاء يغلب عليه الحماس يفرضه طابع القصيدة المشحونة بالعناد والغضب والتحدي :

        لا… بوجه السلطان اصيحن لا …

        واكتب خوف الولايات

        ضيعنه مفاتيح الصدك

        واغركنه بالنيات

واذا ما أكتفى بهذا القدر من الاسماء المشاركة في ذلك الحدث الثقافي الخالد فهذا ماتسعفني به الذاكرة فعذرا لمن غابت اسمائهم عن ذاكرتي واخص بالذكر الشاعر الكبير” شاكر السماوي” الذي كان حاضرا بقوة ومهابة.

لقد رافقت ايام المهرجان حوارات ثقافية ومعرفية رائعة منها حديث الناقد الفلسطيني “محمد الأسعد” الذي اشار الى ان ( المبررالوحيد لاحترام الشعر الشعبي هوالتصاقه الحميم بحياة الانسان ) وكانت الاغلبية من الشعراء المجتمعين في ذلك المحفل مع هذا الرأي مع التأكيد على ان الحاجة الروحية العميقة هي التي يجب ان تكون الدافع لكل نوع من انواع التجديد .

يمكن القول ان مهرجان السماوة للشعر الشعبي عام 1972كان آخر المهرجانات المخلصة لرسالة الشعر .|