استراتيجية وإدارة الأزمات.
في عالم يمور بالتحولات الجيوسياسية والصراعات المتشابكة تبرز المملكة العربية السعودية اليوم كفاعلٍ إقليميٍ لا يُستهان به بل كقطبٍ مؤثر في إعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، وكمنتج فعلي لتاريخ دبلوماسي جديد يجمع بين البراغماتية السياسية والحنكة الاستراتيجية.
لم تعد الرياض تكتفي بلعب دور “الموازن” بين الأقطاب بل باتت تُنتج مواقف مستقلة ومبادرات ذات طابع عالمي وقرارات تحظى باعتبار دولي ما يضعها في مصاف الفاعلين الإقليميين الأكثر تأثيرًا في السياسات الدولية.
لقد دخلت الدبلوماسية السعودية التي لطالما اتسمت بالحذر والتدرّج طورًا جديدًا من الحيوية والفاعلية تجاوزت فيه منطق رد الفعل إلى صياغة الفعل ذاته. فخلال السنوات الأخيرة شهدنا انتقالًا نوعيًا في أدوات السياسة الخارجية السعودية بدءًا من تعزيز الشراكات الاقتصادية مع قوى آسيا الصاعدة كالصين والهند ومرورًا بتقارب محسوب مع روسيا ووصولًا إلى إدارة دقيقة ومتزنة للعلاقات مع الولايات المتحدة دون الوقوع في التبعية أو الانخراط في استقطابات تقليدية.
اليوم تصوغ الرياض اصطفافًا دبلوماسيًا يعكس مصالحها الوطنية وثقتها المتزايدة بمكانتها الاستراتيجية رافضةً الانجرار خلف محاور لا تخدم أمنها القومي ولا مستقبلها الاقتصادي.
ولا يمكن فهم هذا التحول دون الإشارة إلى “رؤية 2030” التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والتي أعادت تعريف مفهوم “القوة الشاملة” للدولة. ففي السياق السعودي الجديد لم تعد الدبلوماسية أداة سياسية فقط بل أصبحت انعكاسًا متكاملًا لمنظومة القوة الناعمة والصلبة معًا: من الاقتصاد إلى الثقافة ومن التكنولوجيا إلى الرياضة والسياحة والبيئة.
لقد بات واضحًا أن المملكة تبني نفوذها من خلال الاستثمار في أدوات التأثير طويلة الأمد وتُرسّخ حضورها العالمي من خلال صناعة الثقة والشراكة لا من خلال فرض الهيمنة أو منطق القوة الصلبة فحسب.
دورها في المنطقة لم يعد مقتصرًا على ملفات النفط والأمن بل توسّع ليشمل الوساطة في النزاعات وإطلاق المبادرات الإقليمية، من اليمن إلى السودان، ومن لبنان إلى العلاقات الخليجية الإيرانية. وأصبحت الرياض وجهةً مركزية في معادلات الحل والاستقرار، يقصدها اللاعبون الدوليون حين يبحثون عن وسيط نزيه أو مرجعية موثوقة في الشرق الأوسط.