23 ديسمبر، 2024 1:47 ص

من الامن القومي الى الامن العالمي

من الامن القومي الى الامن العالمي

من الواضح ان الفكر الانساني قد تغير بشكل ملحوظ في العقود الاخيرة، و الوعي بالوجود تغير ايضا، و نظرة الانسان الى الاشياء  كذلك تغيرت . و يمكن القول ان ما كتب و ما تناول السلوكيات يتجه اكثر نحو العمق و الجوهر و هذا شيء لا يصح انكاره ، و هناك ترسيخ جماهيري عالي مفهوم العدالة و الحرية.  الا اننا في خضم هذا الانجاز الفكري الهائل للبشرية نجد تدنيا سلوكيا عالميا متميزا بالقهر و الظلم و الاستغلال و السطحية و الشهوانية .

ان فهم البلدان في عصر العولمة على انها اسواق للسلع ليس الا ، و فهم ثروات الشعوب على انها مصادر للامن القومي ، و فهم النساء على انهن جسد ممتع ، و فهم الحياة اليومية على انها  مصدر لإشباع الرغبات و الشهوات ، و تسويق ذلك بشكل مبهر و جذاب و حرف الثقافات و الشعوب نحو هذا التوجه ، كل ذلك يكشف عن هبوط مستوى للعمل البشري رغم ما يقابله من تطور فكري .

ان هذا التباين بين المعرفة العالية المحققة  و بين الانجاز العملي المتأخر، يشير الى تخلف في العمل البشري ، و يشير ايضا الى فشل تلك الدول التي تعتبر نفسها راعية للحضارة المعاصرة و قائدة حركة العمل العالمية .

خذ مثلا الوحشية في عولمة الرأسمالية ، و اعتدائها الصارخ على فكرة العدالة و الاخوة الانسانية ، و عدم فهم الاخر الا كونه سوقا للسلع و مصدر لتطوير الدخل القومي ، مع انا متأكدون ان هذا السلوك سينعكس عليهم يوما و سيصبحون سوقا مضطهدا لبلدان اخر تقدمها الصناعي يتفوق عليهم .

مثل اخر على فشل التوجه العالمي الحالي هي ظاهرة سياسة الاعلام ، لأجل التسويق الفكري و السلعي  فعليك ان  توصله لأكبر عدد من الناس ، و هنا لا بد ان تستغل كل ما يحقق تلك الكثرة ، لذلك نجد وسائل المعرفة و التثقيف كالإنترنيت و القنوات الفضائية تتحول شيئا فشيئا الى واجهات اعلامية ، و افراغ كل منتوج فني او فكري من محتواه لأجل تلك الغاية بل و تحديث قنوات و سبيل هابطة و اظهارها انها وجه الثقافة و العالم ليس لشيء سوى التسويق .

من المظاهر الاخرى البشعة هي اثارت النعرات   و تصدير ذلك بشكل مفكرين   او مؤسسات اجتماعية بل واصطناع اشكال مزيفة من ذلك كله لأجل تحقيق اغراض وحشية بشعة بحجة الحفاظ على الامن القومي ،ان ابشع صورة للحضارة المعاصرة تتمظهر في فكرة بناء الامن القومي لدول على حساب دماء الشعوب الاخرى و ثرواتها .

و من المظاهر المنحرفة للحضارة المعاصرة   و مسوقيها هي استغلال المرأة و اعتبارها سلعة و تطبيق اجراءات عملية لهكذا نهج معتديا في ذلك على الحريات العامة و الخصوصيات باستغلال الشبكة العنكبوتية و صفحات الانترنيت المشهورة و المعتمدة و القنوات الفضائية   و المؤسسات الحديثة في الدول الكبيرة و تصدير كل ذلك بانه وجه للحضارة و التطور ، الا ان كل انسان يرى القبح الفظيع في ذلك النهج المريض .

طبعا من غير الموضوعية  الخلط بين هذا السلوك البرجماتي   المختل الذي يسود ابسط تفاصيل الحياة الغربية و التي يحاولون تسويقه الى العالم و بين الفكر الاصلاحي و الاصوات العقلانية التي تبرز في تلك المجتمعات . ان التوقف و التأمل في هذا الوضع المختل الجامع لتطور فكري و انحطاط عملي في المجتمعات الغربية ، مصحوبا بتعمد منها لإحداث صور متخلفة في الدول الشرقية و خصوصا الاسلامية و تثبيت عناصر و اعوان الذا النهج المؤذي ، ان هذا التوقف لا يعني عدائية قومية لتلك الامم ، على العكس انها تعيين لمواطن الخلل لمظاهر دولية تقتحم حياتنا و تريد ان تصيغ الثقافة العالمية الموحدة.

ان خطورة تلك الاعمال الهابطة و المتخلفة في البشع و الاستغلال تكمن في حقيقة توحد الثقافات ، فتقييم و تقويم تلك  المناهج و الممارسات انما يكون لأجل المشاركة العالمي  نحو العدالة العالمية و السلم العالمي و الثقافة العالمية السليمة  .

 ان ثقافة عالمية  هي نتيجة حتمية للعالم المعاصر ، لذلك يجب على الكل الاهتمام بامور الاخرين و ما يصدر منهم ، ما عادت البلدان و الامم و الثقافات المحلية محصنة و بعيدة عما يحصل في غيرها من انحرافات و تشويه ، و لا احد يشك ان كثيرا من الدماء التي تسيل في الشرق الاوسط سببها الرأسمالية العالمية و نهجها الذي لا بفهم الاخر الا سوقا و مصدرا للأمن القومي . لا بد ان تبدل فكرة الامن القومي بالأمن العالمي و التطور القومي بالتطور العالمي و الخير القومي بالخير العالمي ، كما   لا بد ان تبدل فكرة السلامة المحلية بالسلامة العالمية و الاستقامة المحلية بالاستقامة العالمية و المحبة المحلية بالمحبة العالمية و الاخوة المحلية بالمحبة العالمية ، يجب التخلي عن فكرة تقسيم العالم الى امم متناحرة بل لا بد من فهمه على ان جميع دول العالم هي مناطق متكاملة و متناغمة و ان كل خير و زيادة في كل بقعة في الارض هي خير  و زيادة للأرض جمعاء و كل شر ونقص  في اي بقعة في العالم هي شر ونقص لكل اهل الارض .  ما عاد كافيا التحصين و الانعزال و المحافظة المحلية بل لا بد من المشاركة الفاعلة في صياغة فكرة عالمية عادلة و مستقيمة للثقافة العالمية و المنهج العالمي السياسي و الاقتصادي .

لقد بات ظاهرا و بشكل لا يقبل الشك ان كل نظرية سياسية او اقتصادية في اي يلد من العالم يمكن ان يؤثر على كل بقعة في الارض ، و خصوصا في الدول التي تسعى للهيمنة ، فان كل توجه اقتصادي او سياسي فيها يؤثر على جميع البلدان ، بمعنى اخر لا يصح لنا  ان نقول اننا غير معنيين بما يحصل في الدول الغربية من افكار و مناهج سياسية او اقتصادية ، مع انا نلاحظ الانصات و التتبع الشديد الغربي لما بحصل عندنا بحيث صار الغرب يتدخل في ابسط الامور السياسية و الاقتصادية و للاجتماعية في الشرق و لا يفهمون ذلك  على انه تجاوز على الحقوق و انما يبرر على انه في سبيل الامن القومي لهم.

لا بد من التوجه و بسرعة نحو المشاركة الجماعية الفاعلة التحاورية في بناء عالم مسالم يحترم حقوق الشعوب و التخلي عن الفكرة المريضة بإقامة الامن القومي على حساب الامم الاخرى . لا بد من الجميع اقناع الجميع بذلك ، لا بد من ذلك والا فان مسلسل الظلم و الاعتداء و الدماء سيستمر و سيزداد.