-1-
يُخيل للكثيرين ان مؤسسات الدولة العراقية وأجهزتها المختلفة أيام العهد الملكي البائد (1921-1958) كانت في أحسن أحوالها دقةً ونزاهة وانتظاما …
وانه لامجال للمقارنة بين تلك الايام وبين الفترة الراهنة ، خاصة في العراق الجديد (2003-2015) بعد أنْ اعتُمِدتْ المحاصصات الحزبية والمذهبية والقومية أساساً في التعيينات، فأوصلت أشباه الأُمِيين الى أعلى المناصب، حيث عبّر أحدهم عن رئيس الجمهورية (ضخامة) الرئيس ..!!
وكتب الآخر (العلم نورن) ..!!
-2-
الا انّ الباحث المتتبع لما كان يجري في دهاليز الدولة، لا يعدم أن يجد من المفارقات ما يُبدد عن ذهنه تلك الصورة الذهبية المشرقة …
نعم قد تكون تلك المفارقات أقلّ حجماً مما هي عليه الآن ..!!
والعراق اليوم يزيد على عراق الأمس بأضعاف مضاعفة ، من حيث عدد المواطنين ، ومن حيث الموارد المالية والموازنات الانفجارية المليارية، والأعداد الضخمة من الجامعيين والاكادميين في مختلف الميادين ، والترهل الفظيع المتفشي في معظم الدوائر الرسمية وشبه الرسمية .
-3-
ونقتنصُ من تلك المفارقات الكثيرة قضيةً واحدة ، ذكرها الراحل رؤوف البحراني في مذكراته ص 343 – 344
لقد قرأ له (أمين العاصمة) الدكتور فائق شاكر، حين زاره يوم الجمعة 27 أيلول / 1946 ، أول تقرير وَجَدَهُ على منضدته، مرفوع اليه من الطبيب البيطري بأمانة العاصمة .
وكان على النحو التالي :
سعادة أمين العاصمة المحترم
الموضوع : التقرير الطبي للحيوانات التابعة لامانة العاصمة والمستخدمة لنقل الأزبال والأوساخ والانقاض وجرّ العربات الكبيرة..الخ
قام البغل الاسود رقم 72 مساء أمس بعد غروب الشمس بممازحة رفيقه الحمار الأبيض رقم 210 المربوط بجانبه في الطوله (….) الواقعة بنزيزة (شيخ عمر ) وقد أدى المزاح على غير عادتهم كل يوم الى العراك أمام بقية الزمايل (…) والبغال ، مع الاسف الشديد ، الى فج رأس الحمار بسبب ضربات قوية ومتعاقبة من رِجْل البغل مما أفقد الحمار صوابه وحمله الى أنْ يعض الكتف الأيمن للبغل ويشلع (…) وِصْلة كبيرة من لحمه .
ولمّا قام السايس رقم 11 الخفر بمفازعتها أمام انظار بقية الحيوانات في الطولة (…) اتته ضربة قوية غير مقصودة على بطنه فسقط على الارض يتلوى من شدة الألم ، وأُدخل المصابان السايس والبغل الى المستشفى البيطري بموجب ورقة الفحص الطبي المرقم 93 في 25/9/1946 .
وقد خرج السايس بعدها سلامات (…)
للتفضل بالاطلاع والأمر بما يلزم والأمر منوط بكم واعلامنا رجاء
الطبيب البيطري آكوب زسبتسيان
وضحك السامعون
ثم قرأ امين العاصمة الدكتور (فائق شاكر) الهامش الذي كتبه على التقرير ، وجاء على هذا النحو :
أولا : الحمد لله على سلامة السايس
ثانيا : يُغرم كلُّ من البغل والزمال بقطع العلف عنهم لمدة ثلاثة ايام حتى يتأدبوا من الان مصاعداً ، ويكونا عبرة لغيرهم من الحيوانات ، وليفهم كل من تسول له نفسه بالخربطة أنّ الحكومة ساهرة وفاكة عينها (..)على الصغيرة والكبيرة .
ثالثا : يُمنع المزاح والشقة بين الحيوانات بالشغل واثناء الراحة منعا باتا بأمري واللي يخالف أمري هذا أبوه نشعله (…)
رابعا : يربط الطبيب البيطري بين الزمال والبغل حتى اشعار آخر، وحتى يتأكد الطبيب وهو الأب المسؤول عن أبنائه، انّ البغل والحمار قد صفت (قلوبهم) ولم تبق (بينهم) عداوة قد تؤدي الى الكَتِل والمكتول .
خامسا : على مدير الادارة بأمانة العاصمة أنْ يُبيّن الى معالي وزير الداخلية أنْ يفاتح الجهات المسؤولة لنقلى الى اية وظيفة عدا امانة العاصمة لان ما عندي خُلك للزمايل والبغال (…)
احنة وية الاوادم هلّه … هلّه …. عاد وية الحواوين “
أقول :
اذ كان الدكتور (فائق شاكر) قد قرأ لأصدقائه هذا التقرير ليُطلعهم على حقيقة ما كانت تضمه بعض الدوائر الرسميّة من مهازل، فان معظم أصحاب المناصب اليوم لا يُطلعون أحداً على ما يجري في دوائرهم،
وربما كان البعض منهم في حالة ادنى من الطبيب البيطري الذي كتب التقرير ..
ثم ان الدكتور (فائق شاكر ) حاول أنْ يجتاز الصعوبات بالنكتة والظرف
والسؤال الآن :
هل بقي للظَرَف محلٌ من الاعراب مع الفواجع والكوارث المستمرة التي ملأتْ قلوبَ العراقيين أَلَماً وحزنا ؟!!