في عراق ما بعد الاحتلال، لم يكن الفساد مجرد خلل إداري أو انحراف أخلاقي، بل تجسّد كمنظومة حكم، تُعيد إنتاج نفسها عبر العملية السياسية، وتُشرعن وجودها من خلال خطاب الهوية والانتماء. وكما في عصر المماليك، حيث كانت الدولة تُدار كإقطاع خاص، لا كجهاز عام، يتكرّر المشهد اليوم في صورة أكثر تعقيدًا، حيث تتقاطع الولاءات الطائفية مع الامتيازات الريعية لتصنع طبقة حاكمة لا تُحاسب ولا تُنافس. هذا المقال لا يكتفي بوصف الفساد، بل يسعى لتفكيك بنيته النفسية والتاريخية، مستعينًا بنماذج مقارنة من آسيا وأفريقيا، ليكشف كيف يتحول الفساد من حالة مَرَضيّةإلى بُنية إدارية، ومن انحراف أخلاقي إلى هوية سياسية.
طبيعة الفساد في العراق
في كتاب { العراق إلى أين؟} شددتَ على أن انهيار النظام القائمبعد الاحتلال الأميركي سوف لن يكن نتيجة أخطاء عابرة، بل نتاج تفكيك متعمد لبنية الدولة البيروقراطية وتحويلها إلى إقطاعات حزبية وطائفية. أما في { عصر المماليك الثاني} فقد طوّرت هذا التشخيص عبر استعارة مصطلح “المماليك الجدد”: نخبة سياسية لا تستمد شرعيتها من الشعب، بل من الرعاية الخارجية ومنطق المحاصصة. هؤلاء “المماليك“ حولوا الوزارات إلى مزارع فساد، حيث العقود تُمنح بالولاء، والمناصب العامة تُباع وتشترى، والموارد النفطية تُستهلك لإدامة النخبة الحاكمة.
ومن هذا يمكننا وصف الفساد في العراق بأنه ليس عارضًا، بل هو نمط حكم يدمج الطائفية بالمصالح الاقتصادية، ويعيد إنتاج الدولة بوصفها أداة نهب.
في كتابها { لصوص الدولة} ، تعطينا “سارة تشايز“ الأساس النظري لمثل هذه الأنظمة التي تجربتها من خلال تجربة الاحتلال الامريكي لإفغانستان. فتقدم لنا عدسة بنيوية ترى فيها أنالفساد في مثل هذه الدول ليس انحرافاً، بل هو النظام ذاته. في العراق مثلاً، تعمل الوزارات كمراكز رعاية للأحزاب الحاكمة، وتُوزع العقود عبر حصص طائفية، وتُحول المناصب العامة إلى أدوات للربح الخاص. ترى تشايز أن هذه الأنظمة تعيد إنتاج نفسها، وتخلق حالة التشرذم الطائفي في الداخل والإذلال السياسي أمام الخارج، وهذا يقود دائماً إلى حالة من الغضب الشعبي ضد السلطة القائمة، وهذا يولد حالة من عدم الاستقرار في النظام السياسي. فقد درست سارة تجربة أفغانستان بعد الاحتلال الامريكي عام 2001 لتؤكد أن الفساد هو “النظام نفسه”. فتتحول الوزارات إلى شبكات رعاية لمسؤولي السلطة، والمناصب إلى استثمارات، والعقود الحكومية إلى غنائم.
لم يعد الفساد في الدول الخارجة من الاستعمار أو الواقعة تحت الاحتلال ظاهرة يمكن اختزالها في الرشوة أو المحسوبية أو ضعف الكفاءة الإدارية. بل أضحت بنية متكاملة لإعادة إنتاج السلطة، وآلية للحكم أكثر مما هو انحراف عنه. هذه الفرضية تبرز بقوة في النظام الذي أقامه الاحتلال الأمريكي في العراق بعد 2003.
فأصبح الفساد لدينا في العراق سمة الدولة ما بعد الاحتلال، وهو بمرور الزمن بدأ يقوّض شرعية الدولة ويحوّلها إلى “آلة إذلال” للمواطنين وواجهة لنقمتهم، وهذا ما بدفع نحو الاحتجاج المتتالية والتمرد على السلطة الحاكمة. فحين يفقُد الناس الثقة بالمؤسسات سوف يلجأون في البحث عن بدائل دينية أو مسلحة. العراق شهد السيناريو ذاته مع صعود المليشيات مثل القاعدة وتنظيم داعش.
فرانز فانون: خيانة النخب الحاكمة
يعطينا فانون عمقًا فلسفيًا–نفسيًا لتفسير ظاهرة ارتباط النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالمستعمِر. ففي كتابه {معذبو الأرض } وصف فانون النخب الوطنية بأنها تخون وعود الاستقلال والسيادة لتعيد إنتاج بنية المحتل (الذي تبقى تهابه وتخشاه). يقول فانون أن الطبقة الحاكمة المرتبطة بالمحتل حتى عند انسحابه “تدير ظهرها للشعب وتوجه نظرها نحو القوة الاستعمارية السابقة“. فهي تأتمر بكل ما تطلبه دولة المحتل – عبر سفرائه – وهي بهذا تعتبر كل تصريح أو همسة منهم هي أوامر ومواقف عليهم اتباعها. وهذا واضح من سلوك المسؤولين في العراق الآن من تصريحات المسؤولين الأمريكيين (او عدمها) فتعتبرها مواقف سياسية، فيصيغون سياساتهم نحو بتنفيذ توجهات المستعمِر حتى وإن خالفت سيادة دولتهم ومصالحهم شعبهم.
فالعراق بعد 2003 يجسد منطق فانون بدقة: فهنالك نخب سياسية تعيد إنتاج الاستعمار عبر المحاصصة، وترتبط بالخارج أكثر من ارتباطها بالداخل، وتحوّل العملية السياسية إلى مسرحية رمزية. و“تلك النخب الحاكمة” التي يصفها فانون بالخائنة ما هم إلا سلطة أدائية، منفصلة عن الشعب، تمارس الحكم كمُلكية لا كخدمة، وتستمر بالتمسك بالسلطة على جراح شعبها وتقوده نحوو التخلف والتتشرذم سائرين على مبدأ “لا أخلع قميصًا قمَّصَنِيه“المحتل مهما كانت الأسباب أو النتائج، فلا تسمع أن هنالك استقالات من الفاسدين ولا تنحي المقصرين ولا مساءلة المسيئين، حتى وإن تساقطت شعبيتهم بين المواطنين.
فالفساد في العراق ليس مجرد فشل إداري، بل هو نمط تاريخي متجذر في بنية النظام السياسي من خلال آليات المحاصصة الطائفية.
إن أولئك الذين صعدوا إلى السلطة عبر رعاية خارجية، وبتعبئة طائفية، وبتفكيك بيروقراطي لمؤسسات الدولة أطلقت عليهم صفة “المماليك الجدد“، ولا أعني بهذا أنهم امتداداً لإرث العبيد المحاربينللمماليك الأوائل، ولكنهم يعيدون إنتاج منطقهم: فهم منفصلون عن الشعب، يعتمدون على الشرعية الخارجية، ويمارسون السلطة كملكية خاصة لا كوظيفة. ولهذا يصبح الفساد ركن من أركان السلطة ووبه تستمر ديمومة الحكم. وهنالك أمثلة عديدة في دول “العالم الثالث” أو ما يطلق عليها “الدول النامية”، ومنها نيجيريا.
نيجيريا – النفط والفساد البنيوي
من التجارب الدولية المشابهة للعراق هي نيجيريا (حصلت على استقلالها عام 1960). فمنذ اكتشاف النفط فيها، أصبحت مثالاًكلاسيكياً لما يطلق عليه “لعنة الموارد” الطبيعية، حيث يعتمد اقتصادها على ريع تصدير النفط. فقد تماهت النخبة الحاكمة مع الشركات الأجنبية في الاستحواذ على موارد النفط، وتم تحويل الدولة إلى شبكة من مصالح الفاسدين الخاصة. وهنالك العديد من الدراسات تشير إلى أن الفساد في نيجيريا ليس عرضياً في النظام السياسي، بل هو بنية متكاملة من المحسوبية والمنسوبية. ويكأن العراق يسير على خطى نيجيريا . فكلاهما دول فاسدة تعتمد الدولة على موارد النفط ولم تحقق فيهما أية تنمية اقتصادية مستدامة منذ الاستقلال، فينتهي الأمر بهما وكأنهما أمم يوصفون – كما في الحديث النبوي، كـ”غُثاءِ السَّيلِ“، فأعدادهم كثيرة ا ولكنْ لا نفعَ فيهِم ولا فائدةَ، فتتداعى عليهم الأمم “كما تَداعَى الأَكلةُ إلى قَصعتِها”. وها هو حال العراق، تتدخل في شؤونه حتى دويلات الخليج وغيرها.
ولكن هنالك تجارب ناجحة في مكافحة الفساد كانت أغلبها في آسيا، وقد دب الفساد فيها حتى لزمن قريب، ولكنها اتخذت إجراءات تمكنت من القضاء على ذلك السرطان الذي ينخر بُنية الدولة؛ فأصبحت بعد القضاء عليه من الدول الاقتصادية العالمية. فقد استقلت كل من كوريا، وماليزيا وسنغافورة من الإحتلال الاجنبي في عام 1953، 1957، 1965 على التوالي.
عانت مثلاً كوريا الجنوبية من فساد عسكري وسياسي استمر لغاية عقد التسعينات من القرن الماضي. ولأجل محاربة الفساد بدأت بموجة محاكمات علنية لرؤساء وشخصيات نافذة في الدولة.وبحلول العقد الثاني من القرن 21، أصبحت المحاسبة جزءًا من الثقافة السياسية، رغم استمرار بعض مظاهر الفساد في الشركات الكبرى. فالتحرر الحقيقي لم يبدأ في لحظة الاستقلال، بل في لحظة بناء مؤسسات قادرة على محاسبة النخبة السياسية المضلعة بالفساد. ولم تكن النهضة الاقتصادية في كوريا ممكنة دون إصلاح إداري جذري من خلال ربط النزاهة بمشروع وطني تنموي، وتفعيل المحاسبة العلنية والإعلام الاستقصائي عن شبكات الفساد في داخل الدولة وبين رجال الأعمال في القطاع الخاص.
أما ماليزيا ما بعد الاستقلال، فقد واجهت فسادًا أصبح متضلعاً في مؤسسات الدولة وجزءاً لا يتجزء من العملية السياسية. ولكن في تسعينيات القرن الماضي، أطلق “مهاتير محمد“ خطة “رؤية 2020” التي ربطت التنمية بمكافحة الفساد. فتأسست هيئة مكافحة الفساد الماليزية (MACC)، مكلفة بالتحقيق في جرائم الفساد في القطاعين العام والخاص؛ وكذلك مؤسسة ماليزية لمكافحة الفساد(BERNAMA) لتعزيز الشفافية والمساءلة في القطاعين. وحينها بدأت الشفافية تتحسن تدريجيًا، رغم التحديات السياسية لبعض حالات الفساد المتكررة لكبار المسؤولين.
وفي سنغافورة كان الحسم المؤسسي لمكافحة الفساد والشفافية مطلقة. فقامت الدولة بتأسيس هيئة مكافحة الفساد المستقلة(CPIB) ذات صلاحيات واسعة، وبادارة غير تابعة للأحزاب والطبقة السياسية، وقامت برفع رواتب الموظفين العموميين لتقليل الإغراءات، وأصدرت قوانين صارمة وملاحقات قضائية علنية، وفصلت التعينات في الوزارات الحكومية عن المحسوبية والمنسوبية وقيامها على شروط الكفاءة والأداء الانضباط. ولم تكتف سنغافورة بالإصلاح الإداري، بل ربطت مكافحة الفساد بمشروع وطني للنهضة. ومنها تحولت سنغافورة من دولة فقيرة يستشري فيها الفساد وبلا موارد إلى مركز مالي وصناعي عالمي. فأصبحت هنالك ثقة دولية بالمؤسسات الاقتصادية والمالية مما عزز ذلك على الاستثمار الأجنبي والاستقرار الاجتماعي.
كيف يمكن استثمار هذه التجارب في العراق؟
بالمقارنة مع التجارب الآسيوية، يظهر أن مكافحة الفساد ليست مستحيلة. ومع وجود هيئة النزاهة في العراق، ولكن جميع من تولوا إدارة هذه المؤسسة الحكومية يجري تعينهم من قبل احزاب المحاصصة، فـ“راعيها حراميها“ – كما في المثل الشعبي، ومن يخرج عن أداء هذا الطور المناط به في التستر على الفساد يجري إنهاء عمله وتتنحيته من وظيفته بسهولة.
في تجارب هذه الدول الآسيوية الثلاث التي أشرنا إليها، كانت هناك محاكمات علنية تجري بشكل أساسي بحق المسؤولين الكبارحصراً لتعطي درساً اجتماعياً بأن الجميع خاضع للمساءلة والقانون.
في كوريا، جرت محاكمة رئيسة الجمهورية بارك غيون-هيه بتهمة الرشوة واستغلال النفوذ وتسريب أسرار الدولة؛ وكذلك محاكمة رئيس الجمهورية لي ميونغ باك بتهمة اختلاس ورشوة وإساءة استخدام السلطة، وتم عقوبتهما بالسجن لمدة 25 عاماً و17 عاماً على التوالي.
في ماليزيا، جرت محاكمة رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاقبفضيحة سرقة أموال من صندوق الاستثمار الحكومي، وإساءة استخدام السلطة وغسل الأموال، (وهي عملية مشابهة لما جرى في العراق بالجريمة المعروفة بـ”سرقة القرن”). وقد تم سجنه لمدة 12 عامًا وغرامة مالية ضخمة.
في سنغافورة، على الرغم من أنها تُعد من أنظف الدول إداريًا، شهدت في عام 2023 أول محاكمة وزارية منذ نصف قرن لوزير النقل إيسواران، بتهمة قبول هدايا غير قانونية بقيمة تزيد عن 300ألف دولار.
المشكلة في العراق ليست بغياب القوانين بل غياب الإرادة السياسية لمحاربة الفساد لأن جميع النخب السياسية الحاكمة مشتركة فيها، والتي حينها تحولت مؤسسات الدولة إلى غنائم. باستلهام التجارب الآسيوية يستوجب بناء مؤسسات فوق المحاصصة الطائفية، وربط النزاهة بخطة تنموية، وتفعيل الإعلام والمحاسبة الشعبية. فهل هناك إمكانات لتوظيف هذه التجارب في العراق؟
أن الفساد في بلدنا ليس شيئاً عارضًا، بل هو بنية حكم موروثة ويُعاد إنتاجها كل أربعة سنوات. فقد أنتج الاحتلال الأميركي “عصر المماليك الثاني” في حياتنا المعاصرة، حيث النخب الحزبية الطائفية تحكم عبر الفساد بإنتخابات شكلية تعيد انتاج الطبقة الحاكمة وحتى بنفس الوجوه والألقاب. وبمرور حوالي عشرين عاماً بتمامها وكمالها أدى تفشي الفساد إلى تدمير شرعية أحزاب المحاصصة الطائفية بهذه السرعة الخاطفة في عمر الزمن. فإذا كان “المماليك الأوائل“ قد حكموا العراق لفترة تجاوزت الثمانين عاماً (من 1749 إلى 1831)، فإن “عصر المماليك الجدد” قد لا يتجاوز سلطانهم جيل واحد. وعندما يتحقق ذلك سيبزغ عصر التنمية في العراق. فيستحيل أن تُورق التنمية وتزدهر بوجود بيئة فاسدة.
كانت أحزاب المحاصصة الطائفية هي أحزاب معارضة لنظام البعث البائد وتحضى بشرعية نضالية تاريخية، ولكنها توغلها بالفساد لوث سمعتها بين العراقيين فوصلت للحضيض في هذا الزمن القصير. هذه الخيانة التاريخية لتلك النخب الطائفية أعادت لنا عملية إنتاج الاستعمار وفشلت في بناء دولة مواطنة، بل أصبحنا شِيَعًا كُلُّحِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.
الخاتمة
الدرس الجوهري الذي نستقيه من تجارب الأمم الأخرى هو أن مواجهة الفساد لا تكون بمجرد إصلاحات إدارية وشعارات سياسية ووعود انتخابية، بل بمشروع وطني يعيد تعريف الدولة كـ “خدمة عامة لا كغنيمة“. وهذا يتطلب تفكيك نظام المحاصصة القائم، واستعادة الفاعلية الشعبية كمصدر وحيد للشرعية، وليس الإنتماء الطائفي أو الحزبي.
إن تسمية هذه المرحلة التي تلت عام 2003 في العراق بـ“عصر المماليك الثاني” لا تهدف إلى استعادة التاريخ، بل إلى تفكيك بنية رمزية وسياسية تتكرر عبر الزمن: نخب سياسية غايتها السلطة وليس بناء الدولة، قائمة على نهب الموارد والمال العام، ومنفصلة عن الشعب وولائها للأجنبي. في العراق، لا يمكن تجاوز “عصر المماليك الثاني“ إلا عبر مشروع يعيد تعريف السلطة بوصفها خدمة لا غنيمة، ويعيد ربط الهوية الوطنية بالنزاهة، ويؤسس لثقافة سياسية قائمة على الكفاءة والمحاسبة. وهذا ما يفتح أفقاً جديداً للنهضة والتحرر من إرث الفساد البنيوي.