المقدمة
يُعدّ الإسلام السياسي بمختلف مدارسه وتنظيماته أحد أبرز الظواهر الفكرية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي خلال القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. وقد تباينت اتجاهاته بين الدعوة الإصلاحية السلمية والعمل السياسي المباشر، وبين العنف المسلّح والتكفير الشامل للمجتمع والأنظمة. غير أنّ خيطًا ناظمًا يربط بين محطات عديدة يبدأ من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 على يد حسن البنا، مرورًا بالتنظير القطبي والمودودي، وصولًا إلى الحركات الجهادية المعاصرة مثل القاعدة وداعش.
هذا البحث يسعى إلى تتبّع التطور التاريخي والفكري من الإخوان إلى داعش، مع تحليل السياقات السياسية والاجتماعية التي أسهمت في هذا المسار، وإبراز العلاقة بين الأيديولوجيا والتنظيم والعمل المسلح، إضافة إلى دور القوى الإقليمية والدولية في تغذية هذه الظاهرة.
الفصل الأول: حسن البنا ونشأة جماعة الإخوان المسلمين
1- النشأة والخلفية
وُلد حسن البنا عام 1906 في المحمودية بمحافظة البحيرة في مصر، في بيئة متديّنة تقليدية؛ فوالده كان إمامًا وخطيبًا، ومنشغلًا بعلوم الحديث. التحق البنا بدار العلوم في القاهرة وتخرّج منها عام 1927، ليعمل مدرسًا.
عام 1928 أسّس جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية، مستفيدًا من حالة الفراغ الديني والاجتماعي التي خلّفتها سياسات الاحتلال البريطاني وضعف الأزهر والمؤسسات التقليدية.
2- أهداف الجماعة
رفع البنا شعار “الإسلام هو الحل”، ورأى أنّ الإسلام دين ودولة، عبادة وقيادة، قرآن وسيف. كان هدفه إعادة “الخلافة الإسلامية” التي أُلغيت في تركيا عام 1924. تبنّت الجماعة العمل الدعوي والخيري، لكنها أنشأت جناحًا سريًا عسكريًا لتنفيذ عمليات ضد الاحتلال وضد الخصوم السياسيين.
3- علاقاته بالسعودية والسلفية
زار البنا السعودية للحج، وأقام علاقات مع بعض العلماء النجديين المتأثرين بالمدرسة السلفية الوهابية، مما أضاف إلى منهجه الدعوي جانبًا من التشدد العقدي. كما حظي بدعم مالي غير مباشر عبر تبرعات وشبكات إسلامية في الخليج.
4- التمويل
اعتمدت الجماعة منذ نشأتها على اشتراكات الأعضاء وتبرعات التجار المتعاطفين، ثم توسع التمويل مع الهبات القادمة من بعض الأنظمة العربية المحافظة التي رأت في الإخوان حائط صد ضد الشيوعية والقومية العربية.
الفصل الثاني: سيد قطب وتحول الفكر من الإصلاح إلى التكفير
1- النشأة والتعليم
وُلد سيد قطب عام 1906 في قرية موشا بأسيوط. تلقى تعليمه في دار العلوم، وبدأ حياته ناقدًا أدبيًا وكاتبًا قريبًا من التيار الليبرالي.
2- تجربته في الولايات المتحدة
سافر في بعثة تعليمية إلى أمريكا (1948–1950) وهناك صُدم بما رآه من تحلل اجتماعي وفردانية مفرطة. عاد بوعي متشدد، مقتنعًا بأنّ الغرب مادي منحط لا يمكن التعايش معه.
3- التحول الفكري
التحق بجماعة الإخوان عام 1953، وبعد صدامها مع عبد الناصر 1954، اعتُقل لسنوات وتعرض للتعذيب. في السجن كتب أهم مؤلفاته: معالم في الطريق وفي ظلال القرآن.
4- أفكاره الأساسية
الحاكمية: السيادة المطلقة لله وحده، وكل حكم بشري خارج الشريعة يُعتبر جاهلية.
الجاهلية: اعتبر المجتمعات الإسلامية المعاصرة غارقة في جاهلية جديدة.
العزلة الشعورية: ضرورة تمايز “الطليعة المؤمنة” عن المجتمع.
5- التأثير
شكلت أفكار قطب الجسر بين الإخوان والتنظيمات الجهادية اللاحقة. استلهم منها الظواهري وبن لادن والجماعات الجهادية في مصر.
الفصل الثالث: أبو الأعلى المودودي والجذور الفكرية للحاكمية
1- حياته ونشأته
وُلد المودودي في الهند عام 1903. عمل صحفيًا ومفكرًا إسلاميًا، وأسّس “الجماعة الإسلامية” عام 1941 في شبه القارة الهندية. بعد تقسيم الهند استقر في باكستان.
2- مؤلفاته
أبرز كتبه: المصطلحات الأربعة في القرآن، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، والجهاد في سبيل الله.
3- أفكاره
قدّم مفهوم الحاكمية لله بصياغة منهجية قبل سيد قطب.
أكّد على شمولية الإسلام للحياة السياسية.
دعا إلى “الدولة الإسلامية” التي تُطبق الشريعة.
4- التأثير المتبادل
أثّر المودودي بعمق في سيد قطب، خصوصًا في نظرية الحاكمية. ومن خلال كتاباته انتشرت فكرة أنّ الأنظمة القائمة كافرة يجب تغييرها بالقوة.
الفصل الرابع: الجهاز السري والاغتيالات في تاريخ الجماعة
1- التأسيس
أنشأ حسن البنا الجهاز الخاص (أو السري) عام 1940 ليكون الذراع العسكري للجماعة.
2- أبرز العمليات
اغتيال القاضي أحمد الخازندار (1948).
اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي (1948).
عمليات ضد قوات الاحتلال البريطاني.
3- الصراع الداخلي
حين حاول البنا التنصل من مسؤولية اغتيال النقراشي قائلاً عبارته الشهيرة “ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين”، ترددت روايات أن عبد الرحمن السندي (قائد الجهاز) هو من دبّر اغتيال البنا نفسه 1949.
4- الشخصيات البارزة
عبد الرحمن السندي: قائد الجهاز الخاص.
لاحقًا برز أيمن الظواهري وعبد الله عزام في أطر تنظيمية أخرى متأثرة بهذا النموذج.
الفصل الخامس: من الإخوان إلى القاعدة – الجذور المشتركة
1- عبد الله عزام
فلسطيني الأصل (1941–1989)، تتلمذ على الفكر القطبي والمودودي. ساهم في تأسيس “مكتب خدمات المجاهدين” في أفغانستان الذي أصبح النواة لتنظيم القاعدة.
2- أيمن الظواهري
انتمى مبكرًا إلى جماعة “الجهاد الإسلامي” في مصر، متأثرًا بكتابات سيد قطب. التقى بن لادن في أفغانستان، وأصبح لاحقًا الزعيم الثاني للقاعدة.
3- أسامة بن لادن
تأثر بالفكر الإخواني عبر مدرسيه ومشايخه، وخصوصًا عبد الله عزام. أسس القاعدة عام 1988 كتنظيم عالمي للجهاد المسلح.
الفصل السادس: من القاعدة إلى داعش – التحولات الكبرى
1- القاعدة بعد 2001
هجمات 11 سبتمبر كانت ذروة المشروع القاعدي. بعدها تعرض التنظيم لحرب شاملة من الولايات المتحدة وحلفائها.
2- العراق بعد 2003
أدى الغزو الأميركي وسقوط نظام صدام حسين إلى فراغ أمني. تشكّل تنظيم “التوحيد والجهاد” بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، الذي بايع القاعدة لاحقًا.
3- نشوء داعش
عام 2014 أعلن أبو بكر البغدادي “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). تميز التنظيم بوحشية غير مسبوقة، وتكفير شامل، وإدارة مناطق واسعة بالحديد والنار.
4- الفروق بين القاعدة وداعش
القاعدة تركز على “العدو البعيد” (الغرب).
داعش ركزت على “العدو القريب” (المجتمعات والدول العربية).
داعش أعلنت الخلافة، بينما القاعدة أبقت الفكرة مؤجلة.
الفصل السابع: علاقة التنظيمات الجهادية بالقوى الإقليمية والدولية (إيران نموذجًا)
1- اللقاء بين المصالح والاختلاف الأيديولوجي
رغم التناقض العقدي بين السلفية الجهادية (السنية) والمشروع الإيراني (الشيعي)، إلا أنّ الواقع شهد لقاء مصالح.
2- التنسيق في العراق
بعد 2003 استُخدمت بعض قنوات الاتصال بين القاعدة وعناصر من الحرس الثوري الإيراني لتسهيل عبور مقاتلين، بهدف استنزاف القوات الأميركية في العراق.
3- أمثلة على التعاون
تقارير عن إيواء بعض قيادات القاعدة في إيران بشكل مؤقت.
تسهيل الحركة اللوجستية عبر الحدود.
ومع ذلك بقيت العلاقة ظرفية ومصلحية وليست تحالفًا استراتيجيًا.
4- النتائج
أدى هذا الالتقاء إلى خلق فوضى عارمة في العراق والمنطقة، شوهت صورة الإسلام، وعمّقت الصراع الطائفي.
يتضح من هذا المسار أنّ ظاهرة الحركات الإسلامية الجهادية لم تكن وليدة لحظة واحدة، بل تراكمات فكرية وتنظيمية امتدت من حسن البنا وسيد قطب والمودودي، مرورًا بالقاعدة، وصولًا إلى داعش.
العامل المشترك بينها هو:
1. الفكرة المركزية: الحاكمية، تكفير الأنظمة، وإعادة الخلافة.
2. الأداة: التنظيم السري والعنف المسلح.
3. البيئة: الاضطرابات السياسية والاستبداد والتدخلات الخارجية.
لقد التقت مصالح هذه الجماعات أحيانًا مع قوى إقليمية ودولية، مما عمّق الفوضى وشوّه صورة الإسلام النقية، وحوّل فكرة النهضة الدينية إلى أداة للقتل والتدمير.
—
المصادر والمراجع
1. حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية.
2. سيد قطب، في ظلال القرآن، معالم في الطريق.
3. أبو الأعلى المودودي، المصطلحات الأربعة في القرآن.
4. ريتشارد ميتشل، الإخوان المسلمون.
5. جيل كيبل، النبي والفرعون.
6. لورانس رايت، البُرج المُرتفع (The Looming Tower).
7. فواز جرجس، صعود القاعدة وأفولها.
8. حسن أبو هنية، داعش: الدولة الإسلامية والجهاديون الجدد.
9. تقارير مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS).
10. دراسات مركز الأهرام ومركز المسبار حول الحركات الإسلامية.