18 ديسمبر، 2024 6:52 م

من الأدب التركماني العراقي

من الأدب التركماني العراقي

الاطلاع على آداب الشعوب والتحري عن عاداتها وتقاليدها، يسهل الأمر في التعرف على الآخر وتقريب وجهات النظر. فلكل أمة أدبها الخاص ووجهة نظرها تجاه الأمور والأحداث. أقوال وأمثال مختلفة وإن كانت تفيد معان متقاربة إلاّ أنها تختلف في طريقة تناولها لهذه المواضيع وأساليب سردها وتكون لها الوان خاصة. التجوال في عالم الثقافة للأخر يتيح لنا التعرف على ما قد خفي علينا أو لم يرد ذكره في آدابنا وهنا يحدث التكامل المنشود في الثقافة.

في الأدب التركماني العراقي نمط من الشعر الشعبي الذي يطلق عليه اسم (الخويرات). وهذا الضرب من الشعر الشعبي مقارب إلى المنظوم الذي يطلق عليه في العربية تسمية الرباعيات.

في إحدى الرباعيات التركمانية والتي أحببت أن أوردها هنا مترجماً (معناها) إلى العربية هي رباعية تروي قصة قروي كان يروم الذهاب إلى المدينة لغرض بيع بطة والاستفادة من ثمنها.

القروي وهو في الطريق حل عليه وقت صلاة الظهر. وضع القروي البطة جنباً وقد ولىّ وجهه شطر المسجد الحرام حيث قبلة المسلمين وأقام صلاة الظهر. في هذه الأثناء جاء ذئب واقترب منه. شاهد الذئب البطة فسرعان ما أجهز عليها واختطفها وفر بها. القروي المسكين الذي يروم بيع البطة للاستفادة من ثمنها التي هو بحاجة إليه، ما كان له بد إلاّ أن يترك الصلاة ويلحق بالذئب. القروي لم يفكر بأن ما عند الله خير من اللّهو ومن التجارة حتى انفض مشرعاً خلف الذئب عسى أن ينقذ البطة ويتمكن من الوصول إلى السوق وبيعها هناك.

الذئب يجري مسرعاً والقروي يتبعه بكل اصرار وكلما رأى حصاً على الأرض رفعها ورماها نحو الذئب قد يصيبه بأذى أو يخيفه ويترك البطة. الذئب يجر وهو يلتفت إلى الخلف ليعرف مدى اقتراب القروي منه، حتى أدرك الذئب أن الرجل عازم على اللحاق وقد يتمكن من الامساك به ومن ثم قتله، فقام الذئب برمي البطة والفرار من شر القروي.

القروي المتعب جداً من الجري السريع والذي يشهق أنفاسه بصعوبة بالغة، وصل إلى البطة وتمكن من الحصول عليها مجدداً ومن ثم رفعها من على الأرض. أحس القروي أن البطة لا تتحرك، حتى ذهب يقلبها ويتفحصها. وبعد مهلة صدم القروي بأن بطته قد فارقت الحياة وماتت خنقا وهي في فم الذئب اللعين الذي كان يمسكها من رقبتها. جلس القروي يلعن حظه العاثر ويتأسف لما فقده من ثمن البطة الذي كان يروم بيعها والاستفادة من ثمنها.

جلس القروي المسكين هذا ينظر إلى بطته الميته بعيون تملئها الدموع وبدأ ينشد رباعيته المشهورة والتي تفيد المعنى:

لا أنا حصلت على ثواب الصلاة

ولا الذئب قد نال مراده من البطة

ولا البطة حظيت بالحياة

.

الكل قد خسر ولم يستفد أحد من الحادثة شيئاً. فالقروي قد خسر ثواب صلاته وعليه قضائها ولم يتمكن من بيع البطة والحصول على ثمنها وصرفها لقضاء حاجاته. والذئب الجائع هو الآخر لم يذق طعم البطة ولم يتمكن من سد رمقه ولو كان نزراً يسيراً والبطة هي الأخرى قد فارقت الحياة.

استذكر قصة هذا القروي وهذا الخويرات التركماني، عند مشاهدتي لطوابير المنتظرين في الطرقات. أحد الطوابير التي فيها الألاف منتظرين الحصول على 50 لتر من البانزين. طابور آخر فيه مئات المواطنين وهم ينتظرون الحصول على قسائم وبطاقات البنزين. طوابير طويلة وعريضة من المغلوبين على أمرهم وهم على أمل تجديد سنويات سياراتهم في مديرية المرور، أم الزحام الذي تشهده دائرة الجنسية ومعاملات البطاقة الموحدة. هذا الخويرات التركماني استذكره حين جلوسنا في البيت في البرد القارس ونحن نبحث عن ماء دافئ نستحم به أو في الحر الشديد عندما نصب العرق ونحن بانتظار الكهرباء التي نتزود بها لسويعات قليلة فقط والتي لا تغني عن جوع. ومصائب ان ذكرت لا تكفي لها كتب ولا مجلدات وحدث ولا حرج.

الأمر الذي يسوقني إلى استذكار هذا الشاهد من الأدب التركماني، هو نضالنا في التحرر من الحكم الدكتاتوري وجهادنا لرؤية شمس الحرية وتقديمنا لدماء زكية. حتى أصبحنا كالقروي الذي خسر صلاته وهو يلحق بالذئب الذي لم ينل شيئا من البطة التي ماتت هي الأخرة. يبدو أننا جميعاً في خسارة تلو خسارة وكل تلك النضال والدماء قد ذهبت سدى. ومثلما يقول المثل البغدادي “لا حظت برجليها ولا خذت سيد علي”.