18 ديسمبر، 2024 8:12 م

من اقتصاد اليأس إلى اقتصاد المعرفة

من اقتصاد اليأس إلى اقتصاد المعرفة

أكد الفلاسفة القدامى، أن المعرفة هي القوة، وأن المعرفة والقوة الإنسانية مترادفان، وكان أكثر الأشياء إيلاماً للإنسان، أن تتوفر له المعرفة، وتنقصه القوة، وتلك القوة تعني الفعل وتعني التصرف وتعني القدرة على تطبيق المعرفة وتحويلها إلى اقتصاد، لأن ذلك هو هدف الحياة الأسمى، فالمعرفة وحدها لا تكفي، واتساع الهوة المعرفية يحرم معظم الدول النامية من المشاركة الحقيقية في الاقتصاد العالمي الجديد، ما قد يعرضها لمخاطر كثيرة، تبدأ بالاقتصاد وتتسع لتشمل الاستقرار والأمن، على حد تعبير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وليس المقصود بالهوة المعرفية، أن هناك من لا يستطيع امتلاك المعرفة أو من لا يملكها، بل تعني عدم القدرة على إدارتها واستثمارها وأقصدتها، وتحويلها إلى مورد اقتصادي تعود ثمرته على ازدهار الدخل القومي للأفراد، ويرتقي بالاقتصاد الوطني، أما المعرفة ذاتها، فهي حيثما أدرنا وجوهنا سنجدها، وهذا من لطف الطبيعة بنا، حسب دافنشي، وفي عصر المعلومات، فإن الأفكار ليست حكراً على أحد، لكن السر هو في الفكرة التي تنفذ في وقتها ويمكن استثمارها، أي أن المعرفة إنسانية في ملكية الجميع، والحكمة تكمن في أقصدتها والقدرة على ذلك.

إن التعريف السائد، قديماً، للاقتصاد، هو أن تحضر اليوم لمطالب الغد، أما اقتصاد اليوم فيقول، أن نستخدم أشجار الأمس حطباً لليوم، أي أنها قد تجاوزت مرحلة الرطوبة، وصارت جافة وصالحة للاستثمار.

وكما يبدو، فالحديث عن مضاعفات التحول من اقتصاد اليأس، وهي تسمية بلاغية مجازية افتراضية وليست علمية، إلى اقتصاد المعرفة، يقتضي التعريف لكلا الاقتصادين بشكل مكثف، وتوضيح بداياتهما.

بدأ الاقتصاد منذ بداية البشرية بدايات زاهدة بسيطة، اعتمد فيها على الزراعة، أو ما يسمى اقتصاد الطبيعة، بعدها ازدادت الكثافة السكانية، ومع التطور العلمي ووفرة الموارد، استطاع الإنسان اكتشاف ما يحيط به من موارد طبيعية، وتحول الاقتصاد البسيط بذلك إلى اقتصاد صناعي، لكن ملامحه لم تتضح قسماته إلا بعد الثورة الصناعية في أوروبا.

ثم برز مفهوم الاقتصاد المعرفي، إذ كان نتيجة للطفرة التكنولوجية والمعرفية والتطور العلمي، ويوجد ثمة بعض التسميات التي تعبر عنه، كاقتصاد ما بعد الصناعة، والاقتصاد الرقمي، وغيرها، لكن لا يوجد تعريف شامل أو محدد له، ولعل المستقبل العلمي سيسهم في تقديم تعريف محدد لمفهوم الاقتصاد المعرفي، لكن يمكن الاتفاق على أن المعلومات وتكنولوجياتها، هي العنصر الغالب في العملية الإنتاجية‏‏،‏ وهي التي تشكل أو تحدد أساليب الإنتاج وفرص التسويق ومجالاته‏، وتلك المعلومات قد يقصد بها حيناً الأفكار والبيانات مجردة، وحيناً يشار بها إلى البحوث العلمية والخبرات والمهارات‏، أي أن مفهوم الثروة الحقيقي في المعرفة، مقياسه أن من يمتلك المعرفة يمتلك الثروة.

وثمة ملامح يمكن القياس عليها للتحول من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد معرفي، أولوياته رأس المال البشري، وتبدو في أنه كلما زادت جودة التعليم وتمت إدارة المواهب بشكل صحيح، كان التأثير الإيجابي في المجتمع أكثر، فأصحاب المواهب والمعرفة ورأس المال التقليدي، هم الثروة الحقيقية للدول، وتلك الملامح هي الاهتمام بالعلم والمعرفة والاستثمار فيهما، والتطبيق العلمي في كافة المجالات، بوضع خطط استراتيجية، ثم الاهتمام بزرع العدل في المجتمع، ومحاربة الفساد الحقيقي، والحكم الرشيد والاهتمام بالصحة، وأخيراً، الاهتمام بالشباب وإعطاء فرصة لطاقاتهم في إدارة التحول الاقتصادي ورسم السياسيات، وهذه الملامح تعتمد على مجموعة مرتكزات، يمكن قياس التحول ومضاعفاته من خلالها، فالابتكار الذي يقتضي عدم استيراد تكنولوجيات أجنبية، ويكتفي بذاته عربياً، يعيقه وجود فجوة كبيرة بين البحوث التي تجري في الجامعات والمراكز البحثية، وبين تطبيق هذه الأبحاث في الصناعة والخدمات.

وتعتبر المعلومات مرتكزاً ومعياراً آخر من معايير التحول المنشود، إذ إن التوظيف المتزايد في عوالم الإعلام والاتصال والمعلومات في مجمل الأنشطة، يعد سمة تميّز عالمنا اليوم، وهو تفسير عميق، يقدم فهماً جديداً لدور المعرفة، ورأس المال البشري في تطور الاقتصاد وتقدم المجتمع، ومن ذلك تطور الإعلام البديل، ودوره في الاقتصاد الوطني.

وتعد أيضاً تنمية مهارات الإنسان من خلال التدريب والتعليم وخلق بيئة سياسية واجتماعية مناسبة، والاهتمام بالصحة وحقوق الإنسان، والعمل على خلق مهارات من مرتكزات التحول نحو اقتصاد المعرفة، وفي هذا اعتبار حقيقي، بإن الإنسان هو أداة التنمية الحقيقة.

ولعل أهم مضاعفات التحول إلى اقتصاد معرفي، بالإضافة لما تم التمهيد به، تبدو في ما يواجهه الوطن العربي من تحديات كبيرة، من أجل تطوير منظومة التعليم، وخصوصاً في ظل ظهور أنواع جديدة منه، كالتعليم عبر المحاكاة، من خلال أجهزة الذكاء الاصطناعي، كبرنامج الواقع المعزز والافتراضي، توفيراً للوقت والتكاليف، وتسهيلاً في التخصصات بلا استثناء، كما يمكن استخدام المحاكاة حتى مع الأطفال للوصول إلى المواهب عند الأطفال، والتعليم هو قاعدة البناء في الاقتصاد المعرفي، ولذلك يحتاج إلى جهود كبيرة، وخصوصاً في العالم العربي.

كذلك، فإن التوجه نحو الاستثمار في المعرفة، يهدد وجود الخرافات، وقد قال ديفيد هيوم إن المدرسة (القروسطية) والجدال اللاهوتي، قد أعاقت نمو كافة أشكال المعرفة الحقة، وأكد فرويد أنه كلما أصبحت ثمار المعرفة متاحة للبشر، زاد انتشار رفض الخرافات، وكل هذه النتائج تعتبر مضاعفات من مضاعفات التحول إلى اقتصاد المعرفة، فهي أهم سمات الاقتصاد التقليدي، أو اقتصاد اليأس، الذي لن تجعل مظاهره ذلك التحول المنشود نحو اقتصاد العلم والمعرفة يمر بسلام. وللحديث بقية