في عالم متغير لا يسعنا الخوض في تفاصيل الخطاب الديني ومشكلاته المعقدة, ولا نعتزم استدعاء الهم الدعوى الاسلامي بقدر ما يهمنا تشخيص مشكلة عالمية تجتاح الواقع من قبيل تبدد القيم وارتباك الهوية الثقافية للانسان, وينبغي تحديد مقصودنا بالمعرفة الدينية في هذا المقال فهي كل ما يرتبط بالدين من تصورات وحقائق سواء كانت يقينية أم ظنية, وسواء بين الكلية أو الجزئية, وغالبا ما يتم البحث والدراسة في شؤون المعارف الدينية من حيث واقعها المعرفي وتكونها التاريخي وجدليتها مع بعضها من المعارف الدينية الأخرى, وحى مسألة تكيفها مع الواقع, وفاعليتها في تحقيق جدوى على الواقع الاجتماعي والفردي, وقطعت البيئات العلمية والاكاديمية شوطا كبيرا في البحث عن مشكلات الخطاب الديني وما يعانيه من ثغرات أدت بنحو ما إلى عدم تجسد القيم العليا (دينية/أخلاقية) على أرض الواقع, وربما وصل الأمر حد المبالغة في جلد الخطاب الديني في مختلف مراحله التاريخية وتنوعاته المذهبية.
لم تتم ملاحظة مشكلة التلقي الاجتماعي والفردي للمفاهيم والقيم الدينية, وربما يتم تصور هذه المشكلة على أنها في حقل الاجتماع أو الانثربولوجيا, في حين أن مشكلة التلقي أكبر وأعقد بكثير مما يتصور, وتتجاوز حدود المجال الديني أو الاجتماعي أو الانثروبولوجي, ولمشكلة التلقي صور عدة:
العزوف المطلق عن الدين بمعنى مغادرة كل ما له صلة بالدين, وهنا يمكن اطلاق وصف (انعدام ظرف التلقي بسبب العزوف التام) إذ لا مجال أمام الخطاب لأن يصل الى المتلقي من الاساس.
العزوف النسبي الذي يصاحبه وصول الخطاب من دون حصول التلقي, وهنا التلقي يتحقق بنحو نادر وضئيل.
التلقي الصامت, وهو ما يكون بسبب قصور الخطاب أو قصور المتلقي, وهو السائد, ذلك التلقي الذي يفتقد لكثير من عناصر نجاح (الفاعلية) للمفاهيم والقيم الدينية.
التلقي الشائب, هو التلقي الذي يعاني من مشكلات الشوائب والاضافات, مما ينتج نماذج من التدين المتشدد, الذي يبتعد كثيرا عن معايير العقل والمعرفة العلمية, وسبب ذلك التلقي من ناحيتين الأولى مشكلة في الخطاب, والثانية مشكلة في المتلقي بسبب عوامل تكوينية على مستوى الذهن والمعرفة المكتسبة والاسوار الاجتماعية التي تمثل كهفا كبيرا يمنع الآفاق.
التلقي الفوضوي, هو التلقي الذي يشيع اليوم بسبب وسائل التواصل والاعلام المرئي, والذي ينشأ من خلال استقبال كم هائل من المعلومات التي تنسب الى الدين, مع مفاهيم مزيفة تكرس الكراهية والعنف.
لو لاحظنا صور التلقي في أعلاه قد تبدو مشكلة الخطاب او التصورات هي الحاضرة في أذهاننا, لكن مع وعي مؤثرات العصر في ذهنيات الافراد والمجتمعات, سوف نقترب من فهم المشكلة بنحو أوسع, اذ يسود العصر جانبا كبيرا من زخم المفاهيم وتعدد المرجعيات المعرفية, وتضخم في الميول الفكرية, وضمور الفلسفة في التأثير على وعي المجتمعات, من خلال وجود قوالب جاهزة من انماط فكرية وثقافية يسوق لها الاعلام بنحو هائل.
ان من الاهمية بمكان أن تتم معالجة المعارف الدينية من جهة اخضاعها لمعايير المعرفة وتوخي الدقة واليقين في استنباط مفاهيم الدين, ومن الأهمية أيضا أن نعي جيدا مؤثرات العصر بما تحمل من فوضى عارمة تجتاح الاذهان من جهة, والواقع النفسي للانسان المعاصر من جهة أخرى, وتلك المؤثرات يمكن اجمالها في:
المؤثر الاعلامي الذي يتسيد المشهد العالمي, عبر صور متعددة أهمها ظواهر الاسلمفوبيا والتشدد الديني, وعناصر التفاهة في المحتوى الذي تسلل الى بنية الفرد الجديد الذي غدا يواجه ألوان متعددة من المعارف التي تتفاوت في مستواها المعرفي والقيمي والديني.
المؤثر السياسي والاقتصادي, فبعد المتغيرات السريعة في الاحداث العالمية أصبح الفرد والمجتمع أمام عواصف متعددة تربك هويته الثقافية والدينية والقيمية.
المؤثر البيئي, واضطراب المناخ, وتأثير المجال الكوني على الواقع النفسي للأفراد الذي من شأنه أن يؤثر في مساحات التفاعل مع الخطاب الديني, وربما يتم تصور المسألة على أنها ذات تأثير طفيف, لكن ظروف البيئة تؤثر كثيرا في استقرار الفرد والمجتمع نفسيا ومدى تقبله للقيم والمعارف التي تعمل على الضبط الاجتماعي.
المؤثر التكنولوجي, وموجات نظم الاتصال ومدى تأثيرها في مساحات الفعل والتاثير, بسبب تحديات المستقبل القريب للذكاء الصناعي وما ينبئ من نتائج جديدة على القناعات, اذ نحن امام تحدٍ يتمثل بتزييف الحقائق مما يخلق أزمة ثقة وتبدد في القناعات, عندما نتصور نماذج غريبة وجاهزة من الايديولوجيات المستقبلية التي تنعكس على الواقع الفكري والانساني.
وبوادر الحل للخروج من أزمة الهوية التي تحيط بالانسان المعاصر تتمثل في تبسيط معارف الدين بنحو يستوعب المتغيرات المعاصرة, لأن الاجيال القادمة سوف تعاني أزمات الهوية وأزمات وجودية تجاه منحنيات حادة في البنية الفردية والاجتماعية بسبب تنامي التوجهات التي تعمل على حرف مسار تكوين الانسان من ناحية مهددات التكوين الاسري, وفوضوية التعليم, وتبدد القيم, وارتباك المعايير.
في الواقع المعاصر لا مجال امام الاجيال القادمة سوى بسط المعارف وفتح الآفاق بنحو مختصر لا يدعو الى استنزاف الوقت, فمع مؤثرات الواقع المعاصر نلحظ التلقي السريع لزخم كبير من المفاهيم التي تسودها الفوضى والتفاهة والسطحية, لابد من تهيأة الأدوات والوسائل التي من شأنها أن تمنح المتلقي مزيدا من المعارف في وقت مختصر, وهو ما يحيل الى التركيز على الجانب النوعي من المعرفة الهادفة ذات الجدوى الحقيقية على واقع الفرد والمجتمع, وينبغي تحديد الغاية من المعارف الدينية في تحقيق الضبط الاجتماعي الذي يختزل حضور نسبي للقيم والأخلاق التي تحفظ وجود الانسان, وهو ما لا يختلف عليه اثنان.