أنطلقت المظاهرات وهي تطالب وتنادي بمحاربة الفساد المستشري بالمنظومة السياسية سواء كانت في حكومة المركز كما يُطلق عليها أو الحكومات المحلية , وحينها أخذ القسم الاعظم من المتظاهرين وخاصة اصحاب الاختصاصات القانونية والمالية وهو يستشعرون بخطورة الوضع المالي والاقتصادي الذي سيمر به العراق وخاصة بعد أنخفاض أسعار النفط العالميه واستمرارها بالنزول الى ما دون 40 دولار للبرميل الواحد , لذلك أطلقوا الصيحات بتفعيل قانون ( من أين لك هذا ) وقد بينوا وبشكل قانوني ومدروس بأن الاموال التي ضاعت نتيجة الفساد ممكن أن تسد عجز الموازنة المقبله لضخامة تلك الاموال وذهابها الى جيوب الساسة الفاسدين .
وحينما كانت المظاهرات في أوجها شكلت ورقة ضغط على الحكومة التنفيذيه وفعلا قام رئيس الوزراء باعلان تشكيل لجنة مختصة تقوم على عاتقها مسائلة المسؤولين وبدون أي أستثناء بل وأصر على مراجعة جميع ملفات العقارات التي أستولى عليها المتنفذون بصورة أو بأخرى , وأخذ يطلق التصريحات بأن بعض أولاد المسؤولين لديهم سيارات فارهة ويصرفون وينفقون أموالاً أكثر منه شخصياً , وأن هذا دليل واضح على حجم الفساد الذي وصلنا اليه أذا ما أخذنا خلفية الحالة المادية لهم قبل 2003 , كما أطلق التصريحات التي تؤكد بأن هناك أموال كثيرة صرفت على الحملات الانتخابية بغير وجه حق , والكثير من المؤسسات العالمية أثبتت بالارقام والمستندات والوثائق حجم الفساد الذي دخل الى جيوب الفاسدين والذين يتنعمون اليوم بالأستثمارات والعقود النفطيه ورؤوس الاموال الضخمة , وقد أصبح الفساد أمراً مؤكداً لاجدال ولانقاش به خصوصاً وأن الكثير من اللجان التي تعنى بهذا الامر قد أثبتت وجود الفساد بصورة تكاد تكون عامة في جميع أركان الدولة بما فيها الرئاسات الثلاثة .
وبعد أن أرتات لجنة مستشاري العبادي أن تقوم بتخفيض رواتب الموظفين ومخصصاتهم وأقرار سلم رواتب جديد لتخفيض عجز الموازنة , أنطلقت مظاهرات لهيئات التدريس والمتضررين من جراء القانون الجديد , وتمت بعد ذلك مراجعة ذلك القانون وتم أمتصاص زخم المظاهرات وبالفعل تناقصت وأضمحلت , كما تناقصت أعداد المتظاهرين بشكل عام ولم تعد تؤتي ثمارها وأصبحت جسد يحتضر ويتألم بأنتظار من يخلصه من العذاب , و تحقق ما كان يقوله البعض من أنها مجرد هواء في شبك وهذا ما اعاد للسياسين الحرية في التصرف وفق مصالحهم متناسين ذلك الشعب الذي ينتظر لقمة عيشه في كل أخر الشهر ليسدد متطلبات الحياة البسيطه والمدفوعات المستحقه عليهم , ديون سابقه ,أجور مدارس خاصة , المولدة الاهلية , وربما أدخار بعض المصروفات للزيارة , أو بعض الترميمات … ألخ .
أصبحت الحكومة اليوم ظالمة بكل المقاييس الانسانية والحضاريه بعد أن فاجئت المتقاعدين والموظفين بأستقطاع 3%من مبلغ الراتب الاجمالي لهم عند أقرار الموازنة من قبل البرلمان وهذا يدل على أن الكل مسؤول عن هذا الاسقطاع ولم يخرج أي واحد منهم ليذكر النواب بأن تفعيل ( من أين لك هذا ) ممكن أن يسد العجز في الموازنة ويديم الماكنة الحربيه ضد الارهاب ويمول الموازنة الاستثماريه بدلا من أن يكون هناك جيشاً من العاطلين عن العمل وما يتبع هذا الامر من تداعيات وخطورته على الاوضاع الاجتماعيه والامنيه والاقتصاديه , وهذا طبعا لايهم مادام السياسيون في دائرة الامن المادي والذي يتيح لهم الصرف والانفاق بدون مراجعة مابقى لهم اخر الشهر كما يفكر الموظف البسيط وحتى المتوسط , والعلّة في ذلك بأنهم ربطوا ذلك بما تحتاجه القطاعات العسكرية لمواجهة المعركة وهذا لايبرر ولايبعد المسؤولية عن الحكومة ولن يؤسس الى مقبولية قلبيه ووطنية ولا حتى دينية .
وألاولى اليوم بمن يعتبر نفسه متصديا لمعركة شرسة مع الارهاب أن يسأل نفسه قبل غيره من أين لي هذا بل وأن تكون هناك حملة كبرى للتبرعات ومن نفس راضية وأن تكون الحكومه هم أول من يتبرع بالاموال وأن يعتبروا أنفسهم من أبسط الموظفين وأن يأخذوا الحد ألادنى من الرواتب , وان يشيعوا هذه الثقافة في المجتمع العراقي بلا طائفية ولاقوميه ولادينية , وبدلا من أن توجهوا وتفعلوا قانون ( من أين لك هذا ) الى أي شريحة من شرائح الشعب المغلوب على أمره , كونوا على مستوى المسؤولية ووجهوا ذلك القانون الى أنفسكم قبل ذهابكم الى النوم حيث تبدأ مسائلة النفس عما قدمت وعملت وغيروا صيغته الى ( من أين لنا هذا ) .