23 ديسمبر، 2024 12:32 ص

من أنثولوجيا الشاعر سامي العامري-2

من أنثولوجيا الشاعر سامي العامري-2

صرختي عند الولادة

تلك الصرخة الكونية الغامضة

كانت أولى أعمالي الشعرية”

هكذا يُجيب – بمُجتَزَأٍ من ” قصيدة” نثرية – على من يسأله متى بدأت بأولى طقوس الشعر؟ وأرى أن المعنى المركب أو ما يسمى بالمفهوم concept قد أزاح الجانب الشاعري، واقترب من رؤية فلسفية.. والمفهوم هو غير الفكرة idea وهو غير المبدأ principle وفق المصطلحات التي درسناها في دروس الفلسفة؛ المفهوم هو فكرة تقود الى فكرة .. صرخةُ الولادة هي احتجاج على الحياة وتناقضاتها التي ترافق الإنسان منذ ولادته وهي تتعمق مع بذرة الإنسان الشاعر وسيكشف عن هذه الصرخة بلغة الشعر، فكلما اكتسب خبرة في الحياة ازداد طائره مهارة بالتحليق! وفي مجتزأ آخر:

“أنتِ حُلْمي

أوليس الحلمُ من طبع السلافة؟

أنا كرخيُّ الهوى

ثمِلٌ حدَّ الرصافة!”

هنا اعتنى الشاعر بالجانب الفني والموسيقي وقارب “فاعلاتن” الرمل، وصوّر الشوق الى بغداد تصويرا حسنا كرخا ورصافة بمعنى بسيط ومؤثر.. ومن هذه البساطة ننتقل الى ما كتبه من نثرياته الشاعرية:

“وكان لي رمَقٌ زُمرّديٌ! / حمَلتُه على راحتي المؤجَلة/ حملتُه/ على راحة يدي / وكان لي خجل السنابِل / وهي تتسمع لشعاع الشمس / حيث النواعير المجللة بالنثيث / فما استقر لي سمعٌ / إلا وعندك قرارة لجته الأزرق كنوايا الموج! /ونورس … جناحاه ضفتان من هديل/ وكنت …/ بعد وطن.”

هذا مجتزأ من قصيدة نثرية “ضفة لاقمار جوالة”، تكشف عن براعة الشاعر سامي العامري في المزاوجة بين العاطفة الداخلية المفعمة بمرارة الذكرى والحنين، المشاعر تحمل تفاعلا وتأملا مذ غادر خطوط النار متسللا يحمل روحه على راحته وما روحه إلا بقايا رمق زمردي وأراد بهذا اللون التعبير عن الأمل، الذي غَذّ الخطى نحوه وإذ يصل حيث أراد ويجد له وطنأ في حضن ريتا حتى غادره الوطنُ هذه المرة لتتعمق مشاعره وتصبح مزيجا من شوق وحزن وألم…صوّر سامي مشاعره بأدوات تعبيرية بأناقة وتحمل إيقاعات حزينة ورسم صوراً تستدعي التأمل: رمق زمردي؛ راحتي المؤجلة؛ راحة يدي، خجل السنابل، النواعير..؛ لجته الأزرق(الزرقاء، حتى وإن كان الموصوف ضمنا البحر)؛ نورس…وأريد التوقف مع النواعير، التي توجد في العراق على ضفاف الفرات في الأغلب حتى مدينة حديثة وما جاورها، وألأشهر نواعير حماه الكبيرة على نهر العاص،، لقد استخدم الشاعر النواعير رمزا للأنين، حيث يعتقد أن النواعير اثناء دورانها تعطي ألحاناّ شجية وفق السلّم الشرقي للمقامات، وقد تغنى الشعراء والمغنون بذكر النواعير وليس العامري وحده من استخدمها برمزية معبرة، إذ قبله فعل مظفر النواب وعريان السيد خلف ووئام ملا سلمان وغيرهم …

قبل أن أنتقل الى قصيدة أخرى أود أن أجدد التماسي الى الشعراء أن يذيِّلوا قصائدهم بتواريخ إنشائها، وهو أمر مهم لا للشاعر نفسه وحسب، وإنما لمن يريد أن يكشف تطور القصيدة شَكلاً ومضمونا لدى الشاعر.. ولأجل أن نكشف مهارة الشاعر التي اغنتها تجاربه الحياتية وانعكاسها بالضرورة على شعريته نقتطف من ” نافورة اللهب”:

زجّت به الذكرى / خموراً في مغانيها الكثارِ فما أفاقْ وسعى الصباحُ/ وخطوه حُلوُ المذاقْ! / ويرى ممرات من الغيم الخفيض تمددت كازقة فوق الزقاق/ وهناك ما بين الشقوق تمر قافلة من الأنغام / يغرفها الهلالُ / يظل ينشر ضؤءه في الليل نصف صبيحة / سوراً كأطواق الحَمام / فمن يغامرُ باللحاق؟َ!

وأول القول عن هذا الجزء من القصيدة ” نافورة اللهب” وهو عنوان بذاته يمثل تشبيها بلاغيا بل تصويراً واقعيا حين تندلع ألسنة اللهب كأنها ” نافورة” ؛وكلمة نافورة (من المستحدثات التي لا وجود لها في المشهور من المعاجم) أو الشذروان “دخيلة” التي أبدع البحتري في وصفها في قصيدته لبُركة قصر المتوكل في سامراء ، ولا ننسى أن هناك ديوان شعر يحمل عنوان “اللهب المقفى” للشاعر العراقي حافظ جميل. قصيدة الشاعر المبدع سامي العامري بها أنفاس الشعراء الرواد لقصيدة التفعيلة واخص السياب الذي هو من شعراء العامري المفضلين؛ في القصيدة اصداء موسيقى داخلية، ومقاربة للكامل، وأجراس المفردات ومعانيها رسمت صورا رومانسية جميلة يزاوج فيها الشاعر بين عمق المشاعر والصف الخارجي، وكان الوقف على القاف عمق الاصداء الموسيقية .. ولي وقفة مع “ويرى ممراتٍ من الغيم الخفيض تمددت كأزقة فوق الزقاق” هنا تكرار الأزقة، والزقاق خدم الصوتَ وأخلّ بالصورة، فلو ابتدأ ابمنحى سريالي ، لاعتبارنا هذه العبارة الشعرية ضمن ذلك المنحى، ومع ذلك فالمعنى التصويري جميل وواضح وهو من السهل الممتنع والممتع…هذه الملاحظة لا تقلل من جمال المقتبس أبدا.

ولئن وقفنا مع شعر التفعية والنثر الشعري، فلا بد من الوقوف مع الشعر التقليدي أو القصيدة الكلاسيكية فلنختر قصيدة”لكم الفصول ولي رجْع الألوان” من البسيط:

جاب المدائن محفوفاً بألطافِ *** من هاذيات الرؤى رفقاً بعرّافِ

لا توقظيه فجزءٌ من مقاصده *** أن يوقظ الأرض وهو الحالم الغافي!

مالي حلمت بشلالٍ وأوديةٍ *** ورملُ رزازة يعدو وصفصاف؟!

ومسك قلعةِ أربيلٍ احتفظتُ به *** في النبض أو في خفاءٍ ليس بالخافي

وهذه بابلٌ في بعض سكرتها *** فكيف لو تكتب الدنيا بإنصافِ؟

وصلت أرضك (يابوّان) معتذراً*** عن هاجس بيَ لم يذعن لأوصافِ

فيك الثمار على أصنافها انتشرت*** وفي فؤادي أسىً من كل أصناف

الشاعر استهل القصيدة بمطلع حسن، فهو يجوب المدائن التي زارها، يجوبها بخياله ويتذكر الطافها، ويشحن ذاكرته ويستذكر المكان ويكلمه تماما كشاعر وقف على الأطلال ” وقوف شحيح ضاع في التُرب خاتمُه”، وإذ هو مستغرق في عملية الاستذكار الحالمة لا يود أن يُفسد عليه أحدٌ استغراقه هذا حتى ولو كان طيفَ حبيبة! إذ يتذكر بحيرة الرزازة ورمالها التي “تسفيها الرياحُ” بينما أشجار الصفصاف شاخصة تحف بالبحيرة، ثم يعرج على بابل، وبابل تسقي زوارها من سوائل منعشة لا وجود لها مثيل في كربلاء أو النجف! الوصف سلس وبلغة جذابة خالية من التعقيد وفي وصف أربيل ومِسكها الذي يبوح بضوع نشره نجد جمالا وحسن تصوير، وطباقا بلاغيا معبِّراً،،الى أن حُطَّ به الركابُ في شِعب بوّان تلك التي جعلها المتنبي بمنزلة الربيع من الزمان! والعامري هو الآخر يستذكر ثمرها إشارة الى بيت أبي المُحسَّد:

لها ثمرٌ تُشير إليك منه *** باشربة وقفن بلا أوانِ

وعودة الى قصيدة العامري حيث سنختار بعضا من وسطها:

ودعت عمري وميلادي.. وفرحتهم *** من قصد قصدي ومن أهداف أهدافي

كم قد تركنا من الألوان تذكرنا *** في كلِّ حوض وروض منه هفهافِ

ومن رموش صحبناها وقد جرحت *** ولات حين رُمي منها واسعاف

ولات حين عناقيد انتهت قدحاً *** في راحتيْ زمن حُرٍّ ومضيافِ

خَدٌ على السطح أعياني وإذ نزلت *** قدٌّ تطوع ممتناً لإتلافي

فِدىً لسيركِ فاق العودَ والتفتت *** أنغامُهُ فغدت نُصباً لأطيافِ

عذبٌ غناؤك يشفى كل مبتئسٍ *** ويُبهجُ الكون من رأسٍ لأطرافِ

أرى النجوم دعاسيقَ اعتلتنيَ أو *** حقول ضوء ومرت عبر أكتافي

ويرى القارىء معي أن مزاج الشاعر الوجداني والإنشراح العاطفي قد خبا وهجه، وانتابه شيء من الانكفاء، حتى إذ يتذكر مشية الحيبة كغصن مياس تميد في مشيتها ينشرح الخاطر، وحين تتكلم فهي تتكلم بغنج يشبه الغناء، فيبتهج الكون من ابتهاج الشاعر الذي غمره من ذروة رأسه حتى أخمص قدمه، حتى أنه أمسى يرى النجوم نقاطا سودا كتلك المرسومة على ظهور تلك الحشرات الجميلة وكذلك حقول الضوء تمر عبر أكتافه لا يعبأ بها لفرط النشوة او السكرة! وأما “الرموش” ياصديقي الشاعر المرهف فهي جميلة على الأعين النُجل لكن لا وجود لها في الفصيح من اللغة، وبالتأكيد أنك قاصد ” الأهداب وواحدها هُدب” وقد وجدت أن هذه “الرموش ” في أكثر من قصيدة لديك، نعم يوجد فعل: رمش يرمش والمصدر “رَمْش” ولكن لا توجد كإسمٍ أوجمع مثلما ورد لديك.، أجد حشواً في بعض هذا النضد الأخير مما وسم الأبيات فيه بالتكلف عكس الانسياب في النضد الأول، ولو استمررنا في الاختيار سنجد مزيدا مما يشبه النضد الثاني…

القصيدة طويلة نسبيا بسبعة وعشرين بيتاً مستوية الميزان، هل لها ضرورة بهذا الطول؟ لا، لأن القصيدة لا تُذرع بطولها بل بفاعلية أبياتها وتأثيرها لدى السامع ضمن مواصفات وقوانين القصيدة العمودية،،، ومن الملفت أن هذه القصيدة لاقت قبولا حسنا من قبل معلقين كثر، نعم هي تستحق ذلك لا سيما في المقتبس الأول،، بيد أن في المقتبس الثاني هناك شيء من هبوط،، ومع شديد احترامي للمعلقين فإنني وجدت بعضهم يطري على الهابط من الأبيات، ولا شك أن الذوق يخضع للفروق الفردية بين القراء من ناحية الثقافة الشعرية ومن ناحية الذوق ومن ناحية إدراك مقاييس القصيدة؛ أنا عموما مع المجاملة فهي تُذهب بالحسد بعيدا وتوطد العلائق الإنسانية في زمن يستشري فيه الحقد والضغينة لشتى الأسباب بما فيها الطائفية والعنصرية ووو، إلا أنني لست مع الإفراط بالمجامله..هذه القصيدة من أفضل وأنضج عموديات الشاعر المبدع سامي العامري..الذي أقول فيه كلمة أحسبها موضوعية أن الشاعر سامي العامري يمتلك موهبة شعرية متميزة وناضجه في ” قصيدة النثر” وهو أحد فرسانها المبدعين وكذلك في شعر التفعيلة وإن بمقدار لا ينافس الأولى، وأقل أدواته القصيدة العمودية..سأعود للشاعر الجميل سامي العامري مع إبداعاته الأخرى عند تحصلي عليها..