أغلب نهارات بيئة الأهوار تكون صافية وزرقاء ، وحتى في الليل تبدو لك الزرقة واضحة وسط عتمة الماء والقصب ، بالرغم من أن البدو وحدهم من يتحسسون الزرقة في ليل الصحراء لأن المكان يفتح اذرعه على مدى لا ينتهي من الارض المكشوفة ، لكنني في الليالي التي يختفي فيها القمر وتبقى النجوم وحدها تريق خواطرها على اجفاننا مثلما تراق القهوة من دلالها ، تريكَ الزرقة بعتمة جميلة يمكنكَ فيها ان تتخيل الضوء المختبئ وراء سواد الشهي فلا تتمنى فجرا يأتي بل تريد أن تبقيَّ الليل هنا ، وعلى ضوء شمعة أو فانوس تفترش مشاعركَ على الورقة وتكتب قصيدة.
قال لي ابي يوم اريته كتاب تعيني معلما في مدرسة تقع في عمق الاهوار : ستذهب لتعِيش تحت سماء زرقتها اكبر طاردة للحسد ، فلا تصدق ما تتمناه امك أن تأخذ خاتمها ذو الشذرة الزرقاء حتى يقيكَ من الحسد ، فالناس هناك بسطاء ويقتنعون بما عندهم ، كنت ابيع لهم الحنطة والشعير والرز واعرف ارواحهم جيدا .
ومنذ اليوم الاول في الاهوار سكنت الزرقة المفضوحة بأدق مشاعر الحلم والغرام، سكنت عالمي ونظرتي وتفاؤلي: اني مع تلك السماء المتوهجة مع بريق شعاع شمس نهارات المعدان أستطيع ان اطرد الحسد الذي كان يأتي من عيون معلم معنا، كلما اعلنت أنَ احدى الصحف او المجلات الادبية نشرت لي قصة فصيرة جديدة ، وكنت اعرف ان هذا المعلم كلما ارسل خاطرة او قصيدة لا ينشروها له ، وحين ينشرونها يضعونها في زاوية مواهب ناشئة وشابة ، فكان يستشيط غضبا وسط ضحكات المعلمين وتندرهم.
أخذت هذا الازرق معي الى غربتي بالرغم من شحة ظهوره في نهارات اوربا التي تكون اغلبها غائمة وماطرة، ومتى كان النهار ازرقا هنا أسحب اجفاني بهدوء واجعلها تحبو كطفل رضيع الى المكان الذي هناك، أشد اليه خاصرة الجنين والانين وامرن نبض قلبي ليعزف مقطوعة موسيقية عنوانها ( الشذرة الزرقاء ) .
أضحك أذ يكون عليَّ فيها ان اخلط بين الحسي السيمفوني العالي لبتهوفن وهو يرتقي بالموسيقى الى شجنها القدري في تفاعلات ما يشعر به الانسان هنا وسط البيئة الالمانية الساحرة ، وبين عزف يؤديه فم صياد بسيط او راع جواميس ينشده بين مقاطع مواله المجراوي او المحمداوي او الشطراوي وهو يحاول ان يفك رموز غموض زرقة الليل في منادمة القصب والسمك المختبئ في قاع الماء ، فأحصل من المزيج هذا على رغبة بالذهاب هناك لو لنهار واحد ، اشم شذرة خاتم امي ، وانحدر جنوبا الى مكان المدرسة والقرية التي تحولت الان الى خرائب لان العطش دفع اهلها ليهاجروا ، لكن السماء ظلت على حالها تمتلك الزرقة الابدية منذ اليوم الذي قرر فيه النبي نوح ع .الى الابحار الى الاقدار الجديدة في صباح ماطر لم تكن فيه سوى زرقة روحه وامنياته ان يجد البر الآمن.
أعزف من أجل الشذر .. والشذر هناك يسكن في خاتم واحد من اصابع امي المرتعشة ، فأهمس لمفاتيح الكيبورد : لندون المقطوعة اهداء لها ولخاتمها ولعينيها اللتين لا تشعر معها ببهجة الزرقة إلا عندما اطرق الباب عليها عائدا من غربتي ولثلاثة اسابيع فقط .
الشذرة التي في خاتمها الذهبي ، اشترته من المرحوم ( شاهين الصابئي ) بثلاثة دنانير في خمسينات القرن الماضي بعد ان حصلت على حصتها من ريع التمر في بستان ابيها ، وهي تتمنى ان يكون كاهنها الابدي الذي يحفظ ابنائها من ويلات الحروب التي سوف تأتي تباعا وكأن الشذرة والخاتم رسما لها بنبوءة ذاكرة الام ، إن الاولاد سيتركون مقاعد المدرسة الى التجنيد ، ومن التجانيد الى الخنادق الشقية ، ومن الخنادق الى احلامهم التي تتمنى ان لا تذبحهم الشظايا من العنق.
اتخيلها في الركن المظلم من غرفتها ، تصلي وهي في وضع الجلوس ومنحيه الظهر ، وعندما تنهي صلاتها تحرك الخاتم بين اصبعها وتتحسس شذرته الزرقاء فتشعر وكأنها تدير عربة الزمن وتستحضر وجه ابنها ونار خديه المشتعلة في شهية فمها ، فأحس بمشاعرها وأنا هنا ، وعلى الجدار ارى سجودها وخشوعها واتأمل الحركة الصوفية التي تداعب بها الشذرة الزرقاء فأشعر مع استدارة الخاتم بين اصبعها أني اركض الى حقيبتي وجواز سفري فأهرع اليها وأنا اشتعل شوقا كما تشتعل ارواح الدراويش في التهليل وانتظار مودة صاحبهم في اللقيا.
وكمن ركب بساط الريح أصل اليها فتفتح الباب حتى دون ان اطرقه، وسوية انا وهي والشذرة الزرقاء نستعيد بوح الزمن كله ، من اول قطرة حليب من ضرعها الى آخر راتب شهري من سوسيال الإعانة الاجتماعية.
وتخليدا للشذرة والخاتم التقطت له صورة فتوغرافية وجعلت الصورة غلافا لواحد من كتبي الذي عنوانه ( عراق رومي شنايدر ).
الآن والسماء البعيدة هناك ، وزرقة عيون شنايدر ، السر الخفي في زرقة الشذر في خواتم امهاتنا ، يعزف الضوء تراتيل حلم تخيل المكان هناك.
غرفة امي وصورة ابي على الجدار وفوق سريرها بعقاله ونظرته الشزرة ، ربما لان معاملة اخراج الجنسية ليتعين حارسا في دائرة البلدية اجبرته ليجلس امام الكاميرا التي لا يؤمن بصورتها ، لأنه بفطرته يقول : أن الله يخلقنا في صورة واحدة من لحم ودم .
والآن عليَّ أن انصت الى ما يعزفه فمي ونبض قلبي، تخليدا لعطر الشذر وضوئه ، ومتى تنتهي المقطوعة ، أشعر أن الحقيبة تناديني من فوق خزانة الملابس وهي تقول : شذرة خاتم أمكَ تنتظركَ هناك.