“الوفاء” و”الصدق” من أبرز الصفات والخصال الحميدة في تفاصيل حياة أي إنسان، ولهما دور كبير ومصيري في علاقة الفرد والمجتمع والأمة بقيادتها والالتفاف حولها وتنفيذ ما توكله لها بأفضل صورة وخلوص نية وصدق إرادة.. الأهم من هذا هي الآلية والطريقة الصحيحة لاكتساب هذه الخصال الحميدة لدى الانسان فهل تأتي بالمجان أو صدفة؟ أو هل يخال البعض أن بالإمكان أن يكون وفياً او صادقاً او أميناً وقتما شاء…؟!؛ كلا لابد من معلم رشيد وواعي لهذه المدرسة الأبية كي يتتلمذ على يديه الإنسان الحر المؤمن الصادق.
ما أعظم وأزكى من أن يكون الامام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين هو المعلم لهذه الخصال الرفيعة والسامية والحميدة التي أكدها ديننا الاسلامي، وهو الذي عكسها في حياته منذ اللحظة الأولى لاسلامه (كرم الله وجهه) ورسمها على أرض الواقع في ليلة المبيت على فراش خير البرية وسيدها النبي الأكرم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين، فادياً بروحه لبقاء الرسول والرسالة في أمان، ثم في العديد من المواقع البالغة الخطورة في جميع الحروب والمعارك التي خاضها خاتم المرسلين في طريق نشر الدين المحمدي المبين، حيث تحمل أكثر من 70 جراحاً خلال تصديه للكفار والمنافقين الذي أرادوا السوء بالمصطفى الأمين خلال معركة بدر.
أحداث واقعة الطف بكربلاء سنة 61 للهجرة عكست كل الدروس التي تعلمها العباس بن علي بن أبي طالب من أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، بكل محطاتها وأحداثها منذ الخروج من المدينة وحتى آخر لحظة في حياته الزكية، عكس فيها الوفاء والإخلاص لسيده ومولاه وإمام زمانه بعد أن كان يلهج بالإمامة وليس الأخوة عندما ينادي أخويه الإمامين الحسن الحسين عليهما السلام منذ نعومة أظافره حتى آخر لحظة استشهاده قرب المشرعة في يوم عاشوراء انتصار الدم على السيف، وبتلك الحالة المأساوية التي قطعت يداه وأظفأة عينه وشق رأسه وهو على الرمضاء، فهتف: “يا أخي أدرك أخاك”، تلك الكلمة العذبة التي طالما اشتاق إلى سماعها الإمام الحسين وهي تخرج من فم أخيه أبا الفضل طيلة حياته المباركة.
أنه انعكاس لذلك الدرس الإيماني الكبير الذي تعلمه من أبيه قائد الغر المحجلين الذي كان ينادي أبن عمه وأخيه يارسول الله على الدوام حباً وطاعة وخلوصا للنية الصادقة.. ليبقى العباس بكل هذا الإيمان الصادق والوفاء للأخوة مناراً ونبراساً ومدرسة لكل الاحرار في صدق مدعاهم بالوفاء والطاعة، ويقلّب مفهوماً اجتماعياً متشبثاً بالأرض في واقعة الطف ليرفعه نقيّاً وصالحاً الى السماء.. فبات رمزاً للفضائل والمكارم، وفي طليعتها “الوفاء” الذي تمثل في مواقف عدّة يوم عاشوراء، نسمعها ونقرأ عنها، ابتداءً من الصمود والتحدي في ساحة المعركة، وليس انتهاءً بحكاية الماء الخالدة.
صور أبا الفضل العباس في تلك الواقعة الأليمة التي عكست واقع الحقد والكراهية والضغينة التي كان يحملها أبناء الطلقاء لبيت النبوة والامامة، ولا يزال يحملها أحفادهم وأتباعهم ضد محبي وأنصار وشيعة أهل البيت عليهم السلام في كل صوب وحدب مرتكبين المجازر البشعة بحقهم؛ الصورة الحقيقية لمن محض الولاء والايمان واليقين بقضيته، ويكون أقرّب المقربين وهو يحمل لواء معسكر الامام الحسين بن علي عليهما السلام بكل بصيرة ويقين صادق.. فقال عنه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، بأن كان “عمنا العباس بن علي، نافذ البصيرة، صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد الله، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً” – (الخصال 1: 35).
البصيرة النافذة التي كان يمتلكها العباس بن علي لم تكن وليدة الصدفة أو الأيام الأخيرة من حياته خاصة عندما وجد الخطر يحدق بأخيه الامام الحسين وأخته عقيلة بني هاشم زينب الكبرى وسائر أهل بيت العصمة والطهارة، بل كانت تعود الى عهد الصبى والطفولة عندما كان في حجر أبيه الامام علي أمير المؤمنين، ففي حديث يذكره صاحب كتاب “مستدرك وسائل الشيعة” بأن الامام سأله ذات مرة ملاطفاً: “قل واحد”! فأجاب العباس: “واحد”، ثم قال له الإمام: “قل اثنين”! فامتنع العباس قائلاً: “استحي أن اقول اثنين بلسان قلت به واحداً”، لتبين لنا هذه الرواية عمق الإيمان في نفس أبي الفضل العباس، وكيف كانت تنمو مع دمه ولحمه حتى أصبح ذلك الفارس المقدام والقائد الوفي في معسكر أخيه الامام الحسين ومن قبله شهد المسلمون بطولاته خلال المعارك التي خاضها أبيه أمير المؤمنين عليه السلام خلال فترة خلافته القصيرة.
هكذا أتخذ الأباة والمضحين طول التاريخ من إحياء ذكرى هذه المدرسة الوضاءة المشرقة منهاجاً في طريق كفاحهم الطويل والمرير مع الطغاة والحكام الديكتاتوريين هنا وهناك وقدموا الغالي والنفيس من أجل حرية الإنسان ورفض استعباده واستحماره.. وباتوا يحيون هذه الأيام ذكرى خالدة لولادة نبراسها ومنارها أبا الفضل العباس لتبقى منهاجاً وضاءاً ومشعلاً منيراً لدرب المضحين والمقاومين والمنتفضين الأحرار في وجه الظالمين والفراعنة وكبح جماحهم ومطامعهم وإجرامهم طيلة القرون الماضية وستبقى شوكة في عيونهم مادامت الدنيا قائمة؛ والامام زين العابدين عليه السلام قال:”رحم الله عمّي العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قُطعت يداه .. وإن للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة.. » – ( قمر بني هاشم 1: 49).