يجوز القول إن الهاشمي “عاش” موتا سعيدا. فحين دخل القاهرة بعد غياب سنوات طويلة (منذ العام 1964كما يقول زملاؤه) كان أول ما فعله انه زار شقة محمد عبد الوهاب وعمارة فريد الأطرش وقبلها صلى في مسجد جمال عبد الناصر وزار مرقده. ومات في فندق اسمه أم كلثوم في حي الزمالك. وهو فندق يمنح كل غرفة اسما مشتقا من أغاني أم كلثوم او الأغاني المشهورة، وكانت حصته من الفندق غرفة اسمها “حاقابله بكرا”. ذلك اليوم كان عادل الهاشمي سعيدا، طلقا وفرحا، وفيه من النشاط ما يكفي لإدامة شباب الجسد الذي صمد أمام سبعين سنة عراقية ملؤها المنيات وليس الأمنيات.
كان في ودي أن “أقابله” في بكرة ما، ولكن حين جئت الى الفندق كي اذهب مع الوفد العراقي الذي كان عضوا فيه لحضور افتتاح مهرجان الموسيقى العربية في دورته العشرين بالقاهرة، وقبل أن اصل الى الفندق، اخبرني الموسيقار سامي نسيم ان عادل الهاشمي قد توفى. قابلته جثة هامدة. ترقد في غرفة اسمها “حاقابله بكرا”.
كان أعضاء الوفد العراقي الرسمي المشارك في المهرجان جميعا يرتدون “البدلة” استعدادا لحفل الافتتاح. لكنهم استحالوا الى دراويش في حيرة من أمرهم. كيف يتدبرون نقل الجثة إلى بغداد؟ من يدفع التكاليف؟ كيف يتم نقل الجثة الى ثلاجة مستشفى؟ بمن يتصلون؟ هل يخبرون أهله أم يؤجلون الأمر إلى غد؟ هل يدفنون الهاشمي في مصر؟ كانوا يشعرون شعور العزل المستباحين وينسون ان لهم كيانا اسمه السفارة، لا بد أن يتكفل بأمر كهذا.
الأمر نفسه والغفلة نفسها كانت لدي. لا اعرف أرقام هواتف سفارة العراق. لا أحب أن اطرق بابها. عقدة قديمة. كان لا بد من الصحفي هنا. الصحفيون يعرفون الأرقام ولديهم صلات. أقول هذا ونحن كنا نتحدث لساعات قرب جثمان. عليكم أن تتخيلوا قلة حيلة العراقي، يأسه، قلقه. يروي احد أعضاء الوفد كيف ماتت أخته في الإمارات وصرفت العائلة 12 ألف دولار كي تدفن في العراق.
شعور العراقي هذا هو شعور جمعي. آخر شيء يفكر فيه أن لديه سفارة مهمتها مساعدته وإسعافه حين تلم به الملمات. فيما العاملون بالسفارات العراقية لديهم شعور نرجسي يتيح لهم لعب الورق على شاشة كومبيوترهم. اتصلت بمن اعرفهم من الأصدقاء والزملاء. أسعفتنا الصحفية إسراء خليفة التي حضرت بعد أن اتصلت بزوجها الكاتب خضير ميري طريح الفراش. كنت أقول في نفسي: الصحفي هنا من يحل المشكلة. وكانت خير إسعاف: لديها أرقام السفارة واتصلت بالسفير والقنصل والخطوط الجوية العراقية. كانت تلك “الأنثى”..”رجولة”، إزاء حيرة الرجال وقلة حيلتهم وكثرة قلقهم. اتصل السفير العراقي بالوفد، وطمأنهم أن السفارة ستتكفل بنقل الجثمان إلى العراق ومتابعة الإجراءات. وحضر بعد ساعات القنصل العراقي الدكتور عصام البرام وكان له دوره المشهود في معالجة الأمر، والتكفل بمتابعة الإجراءات المعقدة والطويلة لإخراج الجثمان من الفندق ثم إرساله الى مثواه في بغداد. ظل حتى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل لمتابعة الإجراءات الأمنية والإدارية. وهو جهد يستحق عليه الإشادة والتعظيم.
قبل تنفس الصعداء وأثنائه، كنا والوفد العراقي نتساءل كيف نبلغ أهل الهاشمي بوفاته. من ذا الذي يكون نذير شؤم كي يبلغ خبر الوفاة؟ استخدمنا أرقام هاتفه. يبدو أن عادل الهاشمي كان يتوقع منيته. فحين فتحنا هاتفه كان أول رقم فيه يعرّف بزوجته. لا يعقل أن يكتب إنسان في قائمة جواله تعريفا بالشخص: ولكنه فعلها وسهل علينا الاتصال. إذ وضع على هاتفه إزاء احد الأرقام: أم محمد زوجتي! بعدها رأيت ان الحل أن اتصل بوسائل الإعلام التي اعرفها كي يصل خبر وفاة الهاشمي الى عائلته عبرها. وهو ما فعلت.
في ظل تلك “الحوسة”، لحظت أن الهاشمي عراقي فقط. لا احد يعرف حتى إلى أي مكون ينتمي. تاريخ ميلاده الذي اطلعت عليه في جوازه هو العام 1942( على عكس ما نشر عنه انه من مواليد 1946)، وليس فيه سوى انه مولود في بغداد. مازلت اذكر كيف كان يتحدث على الشاشة، كأي بغدادي عريق: بطء فيه طراوة المتبغدد، رهافته وطلاوته. أقول هذا رغم اعتراضي على بعض آرائه بصدد أصوات عراقية كان ينتقدها.
ظل شاغل الرجل الموسيقى والغناء والتلاوة القرآنية (كان آخر كتبه فن التلاوة). والموسيقى تحضر.
إذن يا احد آخر المتحضرين، وداعا. ولكن هل كان عبثا ان تختار ملاقاة ربك في غرفة اسمها”حاقابله بكرا”، وفي مصر التي ظلت مدرستها الموسيقية ملهمة لك؟ العلم بالتأكيد عند ربك الذي “قابلته” يوم منيتك.
* صحيفة العالم