أستغرب كثيرًا من منهج التحليل السائد لدى نخب الأحزاب السياسية التي تشارك في برامج الحوارات السياسية (التوك شو). أبرز ما يثير الاستغراب هو انحراف النقاش عن القضايا الوطنية إلى الدفاع عن مصالح إيرانية، تركية، أو إسرائيلية، أو الغوص في تحليل أولويات فريق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ضد إيران، أو ما يمكن أن يحدث في الشرق الأوسط.
سبق أن أكدت على ضرورة اعتماد منهج (التفكير الناقد) الذي يحافظ على بوصلة واضحة تتمثل في مصلحة “عراق واحد وطن للجميع”، حتى وإن كان هناك ارتباط حزبي أو عقائدي بأطراف إقليمية أو دولية.
كيف ولماذا؟…
أولًا: مهما كانت علاقات الأحزاب السياسية المتصدية للسلطة في العراق مع أي طرف إقليمي أو دولي، يبقى المبدأ الأساس أن المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. وهنا أستذكر العبارة الشهيرة للرئيس المصري الراحل حسني مبارك: “المتغطي بأمريكا عريان”. وأضيف: أي حزب سياسي يضع مصالح دول أخرى فوق مصلحة العراق، فهو عارٍ سياسيًا، بل مجرد (كبش فداء) في أي مفاوضات بين القوى المتصارعة، سواءً كانت إيران التي تدافع عن ملفها النووي وفق مبدأ “ولاية الفقيه”، أو تركيا التي تسعى لتحقيق استراتيجياتها وفق مفهوم “البيعة” للإخوان المسلمين.
كلتا الدولتين لا تعترفان بمبدأ سيادة دولة “عراق واحد وطن للجميع” وفق ميثاق الأمم المتحدة. فالفكر السياسي الإسلامي، سواء بمفهوم “البيعة” أو “التقليد”، لا يتعامل مع مفهوم الدولة الوطنية بمعناه الحديث.
ثانيًا: يقع العراق جغرافيًا في مركز تشابك مصالح إقليمية ودولية…حدوده الجغرافية تظهر انه :
عربي الانتماء.
إسلامي العقيدة.
شرقه فارسي الحضارة.
جنوبه وغربه العمق عربي .
وشماله عثماني الهوية.
هذا التداخل جعله عرضة للاحتلال والصراعات منذ سقوط الدولة البابلية الثالثة (حوالي 500 ق.م).
البعض يعتبره مجرد حديقة خلفية لدولة فارس (إيران اليوم)، وآخرون يرونه جزءًا من العمق العربي استنادًا إلى أصول القبائل العراقية التي تنحدر من بطون القبائل اليمنية والعربية.
وسط هذه التناقضات، لم ينجح أي نظام حكم في العراق الحديث في بناء عقد اجتماعي دستوري يُرسخ مفهوم “عراق واحد وطن للجميع”، حيث تسود العدالة في توزيع الثروات وتُحقق المنفعة العامة للدولة بما يوازي المنفعة الشخصية للمواطن الناخب.
عبر التاريخ، تركت القوى المحتلة وراءها إرثًا من الصراعات الطائفية والعرقية (“الملل والنحل”) التي سيطرت على السلطة والأراضي. هذا النموذج القديم تحول اليوم إلى “إقطاع سياسي” يكرر ذات الصراعات لكن تحت عناوين جديدة تُقدسها بعض الأطراف التي تتبنى الإسلام السياسي.
ثالثًا: يحتاج العراق إلى اتفاق سيادي واضح يُعرّف الأعداء والأصدقاء بشكل لا لبس فيه. هذا الاتفاق يجب أن يكون جزءًا من إعلان دستوري ينبثق عن مؤتمر مصالحة وطنية حقيقية، يُرسخ منهجية سياسية جديدة تقوم على مبدأ “عراق واحد وطن للجميع”.
يجب أن تستند هذه الرؤية إلى:
1. بناء مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة المهنية لا وفق مبدأ “مفاسد المحاصصة”.
2. تحديد السياسات الوطنية بشكل مستقل بعيدًا عن التأثيرات الإقليمية أو الدولية.
3. وضع مصلحة المواطن العراقي فوق كل اعتبار.
هل يمكن تحقيق ذلك؟
الإجابة: نعم، وبكل تأكيد. لكن التحدي الأكبر يكمن في عدم وجود نخب قيادية من المرجعيات الدينية والمجتمعية، والاقتصادية التي تتبنى مبدأ “عراق واحد وطن للجميع” فوق المصالح الحزبية والطائفية.
يبقى القول: لله في خلقه شؤون.!!