التنوع والاختلاف طبيعةٌ تقتضيها الخِلقة الإنسانية ، فمهما اتفق أثنان في آرائهما أو طريقة تفكيرهما يبقى الاختلاف بينهما أمرًا واردًا يعكس طبيعة الشخصية الإنسانية ويبرز هويتها ، بيد أن مايُعكِّرُ صفوَ هذه الطبيعة حينما يُوظَّفُ أو يُفهمُ ما هو من طبيعة الإنسان ليُصبحَ فاصلاً وفجوةً تؤسس لثقافة التقاطع والتناحر والإقصاء فيغدو ما هو غير طبيعي وكأنه مما تستدعيه الغريزة والسجيَّة ، ولم تقف منهجيةُ الفهم للاختلاف على هذا الأساس فحسب بل تجاوزت في ذلك لتجعله ذريعةً لألغاء الآخر و رفضه من عالم الوجود .
في حين أن المنهجية القرآنية في التعاطي مع الآخر المُختلِف معها وجوداً أو سلوكاً وضع النقاطَ على الحروف ، حيث انطلق أولاً من مبدئية إعطاء كلِّ ذي حقٍ حقه في دائرة التقييم وفقاً لمقولة ( و لاتبخسوا الناسَ أشياءَهم ) ، وعدم إغماط فضائل الآخر بالإشارة أو التعريف بها إن وجدت ولو على نحو الإجمال ، وهي بهذه المنهجية تؤسس لتقليص الفوارق وعدم تكبير الهوة بين المتخاصمين ؛ تأكيدًا لبقاء خطوط التواصل مفتوحة بينهما وإن اتسعت دائرة الاختلاف أو تعددت خطوط التقاطع ، ومن ذلك قوله تعالى : ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) [ آل عمران : 64 ] فالمنهجية القرآنية تبدأ من المشتركات وهي موجودة وإن اختلفت العقيدةُ أو السلوك .
وتتضح معالم هذه المنهجية حينما تُطرح كعلاجٍ للظواهر الاجتماعية المنحرفة كما في مسألة شرب الخمر ؛ قال تعالى (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا )) [البقرة : 219 ] فهي لم تبدأ بإصدار حكم التحريم لمخالفة الظاهرة المنحرفة لعقلانية الإسلام و تشريعاته الحكيمة ، ولم يحملها الاختلافُ معها – بحكم كون تعاطيها يمثل سلوكا منحرفًا – أن تغمطَ حق الظاهرة المنحرفة ، وإنما إثبتت النفع فيها كخطوةٍ مرحلية ، حتى إذا حصل جاءت الخطوى الأخرى لذكر المساويء والمضار تمهيدًا لصدور الحكم بحرمة تبنيها ليكون ذلك أكثر إطمئنانًا واندفاعاً في تبني الآراء وامتثال السلوك ، فيأتي قوله سبحانه (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))[ المائدة:90 ] ، فالثقافة القرآنية لم تجعل الرفض الكلي للآخر المباين منطلقًا لها ولم تؤسس لذلك ، وإنما تدرجت في ذلك وهي نظرةٌ مستقيمة تنتهج سبيل الاعتدال لتحقيق التوازن بين المختلفين .