23 ديسمبر، 2024 5:32 ص

منهاج العارفين .. إشارات وتنبيهات متَشظية

منهاج العارفين .. إشارات وتنبيهات متَشظية

أصاب تقي الدين بن تيمية وأخطأ في نفس الوقت بحق التصوف وأهله وأقطابه أيضا ، وتاريخنا الإسلامي لاسيما اليوميات والوقائع المرتبطة بالشخوص البارزة فيه والمكونة لإحداثياته يشير إلى أن ابن تيمية وسط صراعاته العقيدية والفكرية مع الباطنية وأهل الكلام تتطرق طوعا تارة وكرها تارة أخرى لمساجلات لا طاقة له بها مع التصوف الإسلامي بوصف الأخير أكبر وأوسع حركة تجديد في تاريخ الفكر الإسلامي . وربما انساق كثير من مريدي وأتباع الشيخ تقي الدين بن تيمية وراء آرائه وأفكاره وطرحه التنظيري حول التصوف في أمور ظاهرة فقط ، وهؤلاء اقتنصوا العبارات التي تشير إلى موقفه العقائدي فقط حول بعض من مظاهر التصوف الشكلي دونما أي تطرق أو أدنى إشارة إلى إلماعه السردي بشخصيات وأقطاب صوفية كالجنيد الذي يراه ابن تيمية المدخل الحق للتصوف وفقا لالتزامه بالكتاب والسنة لكنه يأبى أن يقبل الطرح الصوفي لابن عربي الذي يرفضه معظم الأصوليين الذين يتسمون بالراديكالية معظم الوقت . وكذلك تلميذه عمر بن الفارض وبموقفه ذلم دخل تقي الدين في امتحان عسير لاسيما وأنه أبى منطق الإشارة والإبهام والرمزية التي اتسمت بها كتابات أقطاب التصوف في الإسلام .
عَلَى مَائِدَةِ ابن عطاء الله وابن تَيمِيَة :
وتقي الدين بن تيمية حينما عاود الرجوع إلى قاهرة المعز لدين الله الفاطمي وجد أن للتصوف والصوفية بوجه عام مقاما ومكانة عالية بين عموم المصريين ،وحينئذ أيقن أنه لا مناص من الاعتراف بكونه ليس عدوا للتصوف ولكنه عدو لهذا الفكر الذي يقود بصاحبه إلى التسوية بين الإيمان والشرك ، وفي موقفه هذا أشار أيضا إلى ما يشير إليه أقطاب التصوف من الفناء الشرعي الذي يعني فناء العبد في الطاعة فيفنى عن غير الله بعبادة الله ، وعن محبة سواه بمحبته تعالى ورسوله . والمشكلة الحقيقية لتقي الدين بن تيمية أنه وقف عند تخوم التبرك والتوسل بالأضرحة وطلب الشفاعة من أصحابها لدرجة أنه ورغم كونه فقيها وعالما شاهقا وصل بحد مهاجمة أفعال الفقراء الذين يتباركون بأضرحة الأولياء إلى السخرية والاستهزاء بالقول تارة ، وبنظم الشعر الساخر تارة أخرى بالرغم من تكرار التأكيد على أنه شيخ الإسلام الأكبر ، يقول ابن تيمية في شعره بلسان الفقراء :
والله ما فقرنا اختيار وإنما فقرنا اضرار
جماعة كلنا كسالى وأكلنا ما له عيار
تسمع منا إذا اجتمعنا حقيقة كلها فشار
وأهم ما يعنينا في هذه التقدمة هو موقف ابن عطاء الله السكندري وهو أحد البارزين في المشهد الصوفي المصري واستنكاره المطلق لهذا الطرح العجيب الذي جاء به ابن تيمية ، وتذكر لنا كتب التاريخ المصري أن ابن تيمية حينما قدم إلى الإسكندرية صلى خلف إمامة ابن عطاء الله السكندي وفيه قال مكاشفة : أعرف عنك الورع ، وغزارة العلم ،وحدة الذهن ، وصدق القول ، وأشهد أني ما رأيت مثلك في مصر ولا في الشام حبا لله وفناء فيه أو انصياعا لأوامره ونواهيه ، ولكنه الخلاف في الرأي .
ودار نقاش طويل بين القطب الصوفي ابن عطاء الله السكندي والفقيه تقي الدين بن تيمية انتهى بطرح فكري صوب ابن عربي بقول ابن عطاء : ابن عربي رضي الله عنه كان أكبر فقهاء الظاهر بعد ابن حزم الأندلسي المقرب إليكم يا معشر الحنابلة ، كان ابن عربي ظاهريا في الشريعة ، ولكنه يسلك إلى الحقيقة طريق الباطن أي تطهير الباطن ، ولكيلا تضل أو تنسى أعد قراءة ابن عربي بفهم جديد لرموزه وإيحاءاته تجده مثل القشيري ، قد اتخذ طريق التصوف في ظل ظليل من الكتاب والسنة إنه مثل حجة الإسلام الشيخ الغزالي يحمل على الخلافات المذهبية في العقائد والعبادات ويعتبرها انشغالا بما لا جدوى منه ويدعو إلى أن تكون محبة الله هي طريقة العبد في الإيمان .
عبد الرحمن السلمي .. زاوية سيرية :
من هؤلاء الذين اتخذوا الكتاب والسنة طريقا واضح المعالم لإقامة طرح صوفي مستنير القطب الصوفي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي الذي ولد بنيسابور بخراسان ، ولقد درس السلمي على يد قطب صوفي شهير هو أبي القاسم النصراباذي ، فضلا عن اتصاله بأبي نصر الطوسي صاحب كتاب ( اللمع ) . ولعل أحد أسباب تفرد عبد الرحمن السلمي هو اهتمامه بالعلوم الإسلامية لاسيما التفسير والحديث ، وتذكر لنا المصادر التاريخية أن السلمي أقام مكتبة كبيرة اجتمع فيها وحوله مجموعة من المريدين الذين صاروا بعد ذلك أئمة للتصوف من مثل عبد الكريم القشيري والخطيب البغدادي والإمام الجويني .
وللسلمي عدة مؤلفات في التصوف منها مجموعة من الرسائل الصوفية التي تعبر عن التزامه بالكتاب والسنة ، وبانفتاحه على الكثير من التيارات والاتجاهات الصوفية والفلسفية والفكرية المختلفة ، من هذه الرسائل الرسالة الملامتية والملامتية تيار صوفي رأى فيه السلمي مثالية فريدة ، كذلك من مؤلفاته بيان أحوال الصوفية ، وعيوب النفس ومداواتها ، وطبقات الصوفية ، وحقائق التفسير ، ومسألة درجات الصادقين ، وتسعة كتب في أصول التصوف والزهد ، وأخيرا كتابه مناهج العارفين الذي ننقل ونعرض بعضا من سطوره في قراءة ومقاربة بسيطة .
سُطُوْرٌ مِنْ مَنَاهِجِ العَارِفِيْن :
على خلاف ما بدأ به معظم أهل التصوف في عرض للأحوال والمقامات ، استهل السلمي في حديثه عن التصوف بالبدايات والنهايات له ، فيقول بإن التصوف له بداية ونهاية ومقامات ، فأول التصوف عند عبد الرحمن السلمي التوفيق من الله تبارك وتعالى والتنبه من سنة الغفلة وترك مألوفات النفس ومرادات الطبع ، وهجران إخوان السوء ومفارقة المكان الذي خالف فيه أمر الله تعالى . علاوة على ترك الدنيا والإعراض عنها والإقبال على الآخرة والخلوة والعزلة وقلة الانبساط وقيام الليل وكثرة البكاء على ما سلف من أيامه وتضييع أوقاته وخسرانه عمره . مستندا في ذلك إلى قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ” لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وماذا عمل فيما علم ” .
ويضع عبد الرحمن السلمي بين أيدينا روشتة علاج واضحة لأمراض القلوب ويخط خارطة طريق للصوفي حينما بؤكد على أن الصوفي أول ما يأخذ به هو الأدب ، ثم الأخلاق حتى يمن الله عليه بالأحوال السنية فيكون شعاره بين الخلق البِشْر والاسترسال ، كما يشير أنه ليس بصوفي من جهل أحكام الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقول : من لم يحكم أحكام الظاهر لم يوفق لتهذيب أحكام الباطن .
وهو في ذلك ـ السلمي ـ يؤكد على ثمة أمور ومشاهد من شأنها تمكين المرء من تحقيق التوبة الشخصية ؛ منها ترك الدنيا والإعراض عنها ، والإقبال على الآخرة ، وقلة النوم والأكل والكلام ، والسعي صوب الخلوة والعزلة والاعتزال وقيام الليل والبكاء على ما قد سلف من الأيام من تضييع وضياع للوقت والجهد غير المحمود.
ويكشف عبد الرحمن السلمي عن ثمار تمكين التوبة من العبد حينما تصح بأن أنوار محبة الله تلوح في الأفق وتتحقق للرائي ، منها الاجتهاد والقوة على أداء الطاعات وضعف النفس عن المخالفة وترك طبائعها المذمومة من بخل وغل وحسد .
مَقَامَاتُ التَّصَوُّفِ :
يشير عبد الرحمن السلمي في كتابه ( مناهج العارفين ) إلى مقامات التصوف ويحددها في ثلاثة ؛ الآداب ، والأخلاق ، والأحوال ، أما الآداب فهي اكتساب ، والأخلاق قدوة ، وأخيرا الأحوال موهبة ، فمن الآداب تذليل النفس والتخلي من الدنيا والتأدب بإمام ناصح أمين وعمارة الأوقات بما هو أولى . ومن الأخلاق حسن الخلق والسخاء والتواضع والاحتمام ودوام الحزن وترك الاشتهار بالصلاح .ويقول السلمي بإن من تأدب بهذه الآداب وتخلى بتلك الأخلاق يمن الله عليه بأحوال سنية من الزهد والورع والتوكل والتفويض والإخلاص واليقين والمعرفة والشوق والأنس .
ويتحدث السلمي عن مقام الصديقين ، كونه من أحوال الصوفية وهو موافقة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أوامره ونواهيه وأفعاله وأخلاقه وبالضرورة قدر الإمكان والتصرف وإتاحة القدرة ، ويقول في ذلك : ” فأول ما يبتدئ بأحواله فإن أطاقها ركبها وإن لم يطق ذلك نزل عن أخلاقه ، فإن لم يطق ذلك نزل عن آدابه ، وإن فاته هذه المقامات فلا يفوته الاقتداء بسنته ولا ينزل عن درجة اتباع السنة بحال ويعلم أن أدنى منازل النبوة منقطعة عن أعلى منازل الولاية ” .
ويقين التصوف عند السلمي الذي يمثل المرحلة الثامنة من عصر المصنفات الصوفية الكبرى أنه ليس بصوفي من جهل أحكام الله تعالى وأحكام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن لم يحكم بأحكام الظاهر لم يوفق لتهذيب أحكام الباطن يقول الله تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) ، (سورة العنكبوت ـ آية 69 ) ، كما يشير إلى أنه ليس بصوفي أيضا من خالف أحواله العلم مستندا إلى مقولة الإمام الجنيد في ذلك المشهد : ” ليكن العلم مصحوبك والأحوال يندرج فيك ، لأن الله تعالى يقول ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) ، ( سورة آل عمران ـ آية 7 ). ويحرص السلمي دوما على أن التصوف يرتكز على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، لذا فهو يبين أنه من باين أحواله السنة فليس بصوفي .