إشــارة عــامة :——–
أتحفنا الفنان والمبدع – صباح الأنباري- بنص جميل(طقوس تحت المئذنة الحدباء) من خلال جريدة العراقية الصادرة من أستراليا؛ في عددها (546 ) من شهر هاته الرؤية النقـدية.
فالمتتبع لأعمال – الأنباري-العاشق المتيم بالركح والكتابة عليه بالجسد؛ بعد تشكيله وخطه في أرواق؛ نهج أسلوبا إبداعيا؛ يتمثل في (المسرحيات الصوامت) الذي يحايث جملة من التجارب الفنية ويتقاطع في بعضها؛ أبرزها – العبث – وهذا الأسلوب ليس بديلا بل محاولة لإعادة الرؤية للفعل المسرحي العربي؛ الذي تمركز على الخطاب اللغوي بكثافة؛ أكثر من الخطاب المرئي؛ بحيث المحاولة كانت على ما أعـتقـد في سنة2000 من خلال نص( طقوس صامتة) شحـذ خبرته وخياله؛ في إطار ما هو موضوعيالذى لا ينفصل؛ بداهة عن الذاتي فبدونهما لن يتحقق الفعل. ولكن في لحظة بروزهما في لحظة معينة وتوقيت؛ يتمظهر الإبداع كخلق جديد؛ في رحاب الممارسة.
ففي وضعية الكاتب- صباح الأنباري- الموضوعي يفرض نفسه على الذاتي؛ مهما حاول (هـو) أو أي مبدع – عراقي – أن يتلافاه أو يجانبه؛ فإن الوضع الكارثي والمأساوي الذي يعيشه الرافدين؛ بشرا وحجرا وشجرا؛ لا يمكن لأي مبدع أو مثقف نبيل وصادق؛ ألا يتأثر بذلك؛ ويحاول قدر ما يمكن:التعبير، عن الموضوعي الذي يتداخل فيه الرسمي بالعـشائري؛ والعشائري بالتبعية السياسية؛ محليا أو دوليا؛ وبالاقتصادي قطريا وإقليما؛ والاقتصادي بالثقافي والثقافي بالتوجهات الطائفية والمذهبية؛ الكاشفة عن حقيقتها؛ ولا يمكن إخفاءها؛ لأنه وضع موضوعي؛ كنتاج لما أسفرت عنه حرب الخليج الثانية. كل هـذا يتفاعل بشكل كيميائي بالذاتي؛ والذاتي المتفاعل والمنفعل بالموضوعي؛ وهذا يبرز في أغلب الأعمال العراقية الحالية؛ بما فيها هذا النص(طقوس تحت المئذنة الحدباء) كاستلهام الواقع العـراقي بشكل ذكي؛ معتمدا على موروث ؛ يعـد رمـزا يتمظهـر فيه ما يحدث يوميا من أشياء هامشية أو مسكوت عـنها؛ ومقاربتها مقاربة جمالية صادمة تعـمل على الحفر في المعنى وبناء الوعي بناء مغايرا؛ من خلال حضور الموضوعي فيه بنسبة عالية؛ عن الذاتي؛ الذي لا يكـشف عن نفسه إلا ماوراء الأيقونات: كيف ذلك؟
المــنـظار:
———-
النص الذي بين أيدينا ؛ سيبدوفي نظر القارئ؛ أنه قصير من حيث التركيب العام؛ لكنه في الواقع يحتل زمانا أطـول، أثـناء الاشتغـال/ العرض/ نـظـرا لتعاقب الأحداث وتعدد الشخوص؟ طبعا فتعـدد الشخوص ليس مقياس. ولكن من خلال التصور الإخراجي؛ المتمركز على لغة الجسـد؛ في بعـده الخطابي والتعبيري والتواصلي؛ فلامناص من تفعيل الأجساد بالحدث؛ والحدث لتفجير كل مكنونات الجـسد؛وخاصة :الصامتون الرجال 6 / الرجل ذو العمامة السوداء/ مجموعة من الجند الملثمين/مجاميع من الشباب والضحايا.
وهكذا، فإن الإشكال، واللبس في النص؛ باعتبار أن المبدع – صباح الأنباري – تمرس على الكتابة الصامتة؛ ليحاول أن يماطل المعـنى الذي يتداخل فيها السياسي بالمعرفي بالأيديولوجي بالفني؛ فهذا التداخل لا يعـطي هجـنة فنية؛ بل يقـدم منظارا لاكتشاف ماوراء خطاب الجسد؛ نظرا أن الكاتب ينتج نصاً محصناً (فنياً) ضد القراءات الساذجة أوالسهلة؛ وبالتالي حاول النص استعادة الأشياء كما وقعت، فماذا وقـع؟
جزء من السؤال يجيب عـنه العنـوان؛ الذي يحدد مكان الحدث (المئذنة الحدباء) والتي ورد ت في النص هكـذا : – المسرح يبدو خاليا من قطع الديكور إذا استثنينا المئذنة الحدباء في عمق المكان. اللون السائد في المسرح هو اللّون الترابي والأحمر القاني- بحيث المئذنة تحتل المشهد كـله وباسطة هيمنتها على المكان. وإن كانت ثابتة وجامدة؛ فهي ناطقة عبر تاريخها ووجودها ركحيا: فأين توجـد؟ هيأشهر مآذن الموصل والتي تـعد من الرموز التاريخية وكـذا من أهم معالمها، حتى أن المدينة ذاتها كانت تعـرف لدى روادها في العصور الوسطى باسم مدينة الحدباء.
إذن فـوجود لونين – الترابي/ الأحمـر القاني- يذكـي بأن اختياره – للحـدباء- ليس اعـتباطيا؛ وذلك ترسيخ للفضاء الموصلي؛ ولـقـدسية المكان (الترابي) وتلطيخه وتدنيس للفـضاء (الأحمر القاني) – تتجمع الدماء في بركة صغيرة… تتسع البركة كلما ذبح عدد جديد من الشباب حتى تفيض البركة بالدم… تشكل الدماء لها مجرى… يتقدم المجرى صوب الرجل المعمّم… يقف عند قدميه مشكلاً بركة جديدة… يستمر القـتل حتى تفـيض البركة الثانية..(النص) مشـهد مـن ضمن المشاهد الدمـوية المـهولة؛ جعــلت الوضع العـراقي الآن أكثر تـعـقيدا؛ وتائها بين المقـدس والمدنس؛ نتيجة ما بعـد حرب الخليج؛ وما خلفته من صراع مباشر بين الطوائف المذهبية والعشائرية؛ ويوما عن يوم تتعـقد الصورة الاقتصادية والسياسية والاجتماعـية؛ ومدينة الموصل ليست بمعزل عـن ذلك؛ لكنها دخلت في مرحلة تحول مفصلي إثر الأحداث، التي عرفتها في السنوات الأخيرة؛ بازدياد وتيرة غير واقعية وغـير متوقعة، الدم والقتل والتهديد والحصار والعقاب ومـوت آلاف الأطفال والشيوخ والنساء(ينهض الرجال الملثمون ويفتحون نيران بنادقهم الأوتوماتيكية على الهاربين فترتعـش أجسادهم كما لو أنهم يرقصون على عزف البنادق… تتهاوى الجثث فوق الجثث… تتكدس على الأرض… يخرج الملثمون من جحورهم… يدوسون على الجثث… يقتلون من لم يمت بعد بوابل من الرصاص… يلاحق بعضهم من استطاع
الفرار… يلقون القبض على ثلاثة من الهاربين… (النص) فالكتابة هاهـنا تجسـد الواقع المأساوي؛ الذي تتعـرض له الموصل وما يحـيط بها من مناطق كصلاح الدين والأنبار وديالى؛ وبالتالي إن الهدف من ذلك؛ مزدوج في نظر – المؤلف – أن يجعـلنا نعـيش من جديد الحـدث السابق، وفي نفس اللحظة إعادة تركيب هذا الحدث و إنشاءه من خلال نظام رجعي، يفرضه الواقع لتأريخه؛ لتحقيق الموضوعية التاريخية؛ بمنظار صادق تجاه الـحـدث ؟
الــــحــدث :
*********
من الطبيعي؛أن العـراق عاشت وتعـيش مئات وآلاف الأحداث السياسية والاجتماعية والانقلابية والتفجيرية والانتحارية؛ لكن النص يحدد الحدث في – الموصل- والتي كانت بعـيدة إلى حد ما عن دموية المشاهـد؛ إلا بـعـد أحداث الانزياحوسقـوط الموصل – عـدد من الملثمين بملابس سود مصطفين على شكل قوسين تحت المئذنة الحدباء وكأنهم تماثيل حجرية جامدة…( النص) فالحدث واضح؛ وتشكيل القوسين على المئذنة / الرمز التاريخي والديني للموصل؛ إشارة دالة على تطويقها والسيطرة عليها. ولكن من هـؤلاء الملثمين؟ سؤال يفرض نفسه بحكم الصراع الطائفي؛ المنوجـد هـناك: هل ( هـم) شيعة/ سنة/ أكراد/ تركمان/…/ ؟
فما هـو معروف؛أن المـوصل:يقـطنها أهل السنة من العـرب والأكراد والتركمان. وممكن أن تكون هاته المعـطيات غـير دقيقـة؛ لتبعثر الأوراق العشائرية والمذهبية والديمغرافية والسلالية؛ وبالتالي لا وجود للشيعة هناك؟ ولـكن حسب التقارير ومعطيات الواقع فالملـثمين الذين أسقطوا واحتلوا (الموصل) في يونيـو2014 جماعة (داعـش) وهي موضحة بوضوح المشهد الصامت- … يرفع الرجل سيفه إلى الأعلى وبضربة واحدة يفصل الرأس عن الجسد… يتقدم اثنان من الحماية فيمددان الجثة ويضعان الرأسالمقطوع عليها… يلتفت السياف إلى الرجل ذي العمامة السوداء فيشير له الأخير بقطع رأس الثاني… يقطعه فوراً ويضع الرجلان الرأس فوق الجثة كما فعلوا في المرة الأولى… يلتفت السياف إلى الرجل المعمّم فيشير له بالتوقف عن الذبح… (النص) وبناء على المشهد فالجماعة (الداعشية) لا تخـفي أنها تستهدف إبادة الشيعة وتصفهم بالرافضة.
إذن في الموصل شيـعـة ! ومن خلال النص؛ نستشف بأن كاتبه الفنان – صباح الأنباري – يحمل منظارا صادقا؛ يلتقط من خلاله لما جرى هـناك من أحـداث؛ ويخـطه لمسرحـته؛ وللتأكيد على رؤيتنا النقدية؛ ففي نص سابق(طـقوس صامتة) – نسمع من خلال الظلام أصوات أبواب تُفتح ثم تغلق بقوة، محدثة جلبة وضوضاء.. يخرج الناس مهرولين،لاهثين في الظلام..إضاءة مركـّزة ومتحركة؛ نرى أثناء توهجها الرجل ذا الملابس البيض واقفاً أقصى يسار المسرح يبدي تعجبه واستغـرابه من حركة الناس، يحاول إيقاف أحدهم لكنه يفشل..(نص/ طقوس صامتة) فالفرق بين النصين؛ تفاعل الأحداث؛ فهـذا
يجـسد ما تعرض له أهل السنة؛ عبر ربوع العراق؛ والذي بين أيدينا(الآن) ترصد لما قامت به (داعش) من قتل واقتتال؛ وهاته الطقوس؛ إشارة واضحة لطقـوس التلمود- والمرموز إليها بعـدد (ستـة)والذي يكشف عـن هويته؛ إضافة لمشهد جـد معـبر عن الوحشية وطقـوسية الـحـدث- … يجلس عـندها، ويتوضّأ بالدم ثم يبدأ بالصلاة مع ارتفاع صوت الشخـب، وإذ ينتهي من صلاته يقف تحت المئذنة الحدباء رافعاً كلتا يديه إلى السماء متمتما ببضع كلمات صمّاء حتى تطفأ الأضواء تدريجياً(النص) والمثير جدا أن تلك الطقوس؛ لم تستثن أحـدا من البشر دم في دم:
* (المرأة)… وعلى الأرض تجثو شابة، في مقتبل العمر، على ركبتيها، مقيدة اليدين والرجلين. يشير أحد المسلحين للناس كي يتجمعوا حولها فيتجمعون وكلّ منهم يحمل بيديه ما استطاع من الحجر… يشير لهم أحـد الملثمين فيبدأُون برجم المرأة والقسوة بادية على وجوههم جميعاً… ينهال الحجر عليها… تتألم… تتلوّى… تتكور على نفسها… يسيل دمها حتى تتخضّب كلّ ملابسها البيض بالدم… (النص)
– (الطفـل) يخترق الجموع طفل صغير… يرمي بنفسه عليها… يحاول حمايتها… يستمرون بالرجم… تموت المرأة بين يدي الصغير فيقف مواجها إياهم وقد اصطبغت ملابسه بلون الدم…( النص) ولكن كيف للمنظار أن التقط مصرع الطفل؛ بشكـل جد مؤثر على الورق؛ فكيف سيكون فوق الركح؟ – يحمل الصغير حجراً من تلك التي تكومت حول المرأة… يحاول قذفه صوب المسلّح لكن المسلّح يرديه، على الفور، قتيلاً فيسقط فوق أمه ميتاً…( النص) فكما أشرنا سابقا؛ فلا مناص من دراماتورجي؛ لكي يعـطي للنص قوته الناطقة؛ من خلال تفعيل الحركة المرافقة للإضـاءة؛ التي تعد محورا أساسيا؛ في تفجير ماوراء الأيقونات وأحداثها المترابطة بالحدث العام؛ لكي لا يظل صامتا؛ فمشهد الطفل؛ لا يمكن أن يمر هكـذا!
– (الشباب) يعطي الملثّمون للشباب أمراً بالانبطاح على الأرض فيفعلون… يقيّدون أيديهم إلى الوراء ويقفون بانتظار إشارة رجلهم المعمّم… يشير لهم بتنفيذ رغبته فيذبحون الشباب بدم بارد…( النص) ولكن الذي لم يفـهم؛ على مستوى الواقع الميداني؛ غياب القوة المسلحة؛ والنص بدوره يشير لذلك – وإذ يدخل عـدد من الجنود بملابسهم الحربية يهربون… يلقي الجنود أسلحتهم على الأرض… يخـلعون ملابسهم الحربية… يرتدون ملابس مدنية ويولّون الأدبار هاربين..- وفي مشـهد أخر نجد نفس الانهزامية؛ وعدم الروح القتالية عند الجنود- تدخل مجموعة من الشباب بالملابس العسكرية… تنتشر في المكان بعد أن يتأكد لها عدم وجود العدو فيه… يتجمع بعضهم مـع بعض(….) يتقدمون بصمت… ينتشلون هـرم البنادق(… ) يوجّهون أسلحتهم نحو الشباب الذي بدأ النعاس يجرّهم لإغفاءته بهدوء واسترخاء تامّين(… ) يحفـر بالإكراه وهـو العارف أنه يحفر قبره بيديه… يكمل الحفر… يأمره أحـدهم برمي الجثث داخل الحفرة…( النص) فهاته الصورة؛ التي يعقبها الدفـن الجماعي؛ تعـد قـمة الاستهتار بالروح البشرية؛ لفصيل دون آخـر؛
فيوجه الملثمون فوهات بنادقهم إلى رأس الرجل الثالث… يتوقف المعمّم… يفـكر قليلا ثم يأمرهم بإطلاق سراحه، والسماح له بمغادرة المكان…( النص) فلماذا تم إطلاق الرجل الثالث؟
وحـسب الأحـداث التي تحـركت في الفضاء الموصلي؛ كان الشيعي يقتل ويسلح والسني يعـود هاربا لبيته؛ فهـذا التفيء في نظري فيه نوع من المجازفة السياسية؛ لأن الصراع الدموي؛لا يفرق بين هـذا وذاك؛ وحتى إن سلمنا؛ وهذا وارد في كل المواجهات والحروب؛ بأن هناك مخبرون ووشاة من سكان المنطقة يخبرونهـم؛ ولكن لا يمكن أن نغيب الوشاية الكاذبة؛ والحـقـد والـحسد بين أفراد نفس الحي والدرب؛ ومن خلال كل هـذا وهذه؛ يذهب البعض ضحية ذلك؛ وبالتالي لا يمكن أن نسير مع النص- كلية – من خلال منظاره؛ وإن كان صادقا في الالتقاط والتجـسيد؛ لأن النص بعد سنوات سيصبح وثيقة تاريخية؛ تجاه من وضد من؟ لأن العنوان يحمل شقـين متناقضين:
(طقوس صامتة >< المئذنة الحدباء) = التلمود(رمزيا) الإسلام (حقيقة) لأن بينهما (ظرف مكان) فهل المكان فرض تلك الطقوس؟ أم هي حمولة للقضاء على الإسلام؟ لأن النص يعطينا مشهدا شبيه بحائط المبكى -يستدير الرجل المعمّم مواجها المئذنة الحدباء… يستدير رجال حمايته أيضاً… يرفعون أيديهم بالدعاء بينما يتحرك أحد الجرحى خلسة مقترباً، وعلى غفلة منهم يفتح نيران بندقيته فتطفأ الأضواء ويعـم الظلام مع استمرار صوت الرصاص إلى النهاية ( النص).