المراهقة هي المرحلة العمرية الذهبية من مراحل النمو في الإنسان السليم ، فهي الحيوية في الجسم والطاقة في الحركة والخصب في الخيال والإكتساب في العقل ،وتمثل المرحلة الفاصلة بين عهد الطفولة وبدء الشباب ، وقد سميت بالمراهقة نسبة إلى مايمكن أن تسببه من إرهاق للأهل في قدرتهم على مجاراة تلك الحيوية في الأبناء ، لكنها كذلك مرحلة الصحبة والصداقة من الأهل للإبن ، استناداً إلى قول الرسول الكريم ” لاعبوهم سبعاً وأدّبوهم سبعاً وصاحبوهم سبعاً ” والصحبة والصداقة لاتأتي جزافاً ، بل بين نظراء أو من هم جديرين أن يكونوا كذلك ،كما انها مرحلة الفتوّة حيث الشجاعة والإقدام ، وقد وصف العرب بالفتى ، ذلك الفارس الصنديد والقوي ” لافتى إلا علي ” حينما بارز أشهر فرسان العرب وانتصر عليه .
إن وصف الإنسان بالمراهقة ليست مثلبة ولا تعني بالضرورة عدم الشعور بالمسؤولية أو تقدير الأمور أو عدم الإكتمال في العقل ، إذ طالما قدّم لنا التاريخ عشرات الأمثلة والشواهد عن عبقريات اكتشفت وأبدعت ما ترك آثاره على مسار البشرية برمته ، وكانوا حينها في عمر المراهقة ولم يدخلوا بعد مرحلة “الحلم” الذي يعني الصبر في الحياة والتأني في الأحكام كي لا تجافي الحقيقة ، من هنا تُركت للإنسان حريته الكاملة في التصرف بحياته وقبول شهادته وإجراء العقود بعد بلوغه تلك السنّ .
ليست المشكلة في أن نطلق صفة “المراهقة” على من لا نستطيع مجاراته أو من يخالفنا الرأي في نظرته للأمور ، للإيحاء بأن ما يقوله فيه تسرع في الحكم أو عدم تبصر في الأشياء ، بل إذا أتى ذلك الوصف ممن يمكن وصفه – بناء على ما يقوله أو يطلقه من أحكام على الآخرين – بأنه مصاب بقصور خلقي أو ما يطلق عليه “منغولي” أو انه مازال يعيش في المرحلة الثانية من القول الكريم “أدبوهم سبعاً” .
“المنغولي” قصور يجعلنا نتعاطف مع المصاب به ، لأننا ندرك بأن مستقبله لن يتعدى تعليمه مهنة يدوية يتكسب منها، دون إن يكون عالة على أهله أو الآخرين ،إذ إن ملكاته العقلية لا تؤهله لنيل العلم الذي يضعه في موقع الحكم استناداً إلى متطلبات العقل وعملياته المعقدة كما في من يمارس عملية الكتابة ،حيث يفترض إنه وصل إلى مرحلة من التعليم تؤكد بأنه غير مصاب بتلك العاهة ظاهراً ،لكن مضامين ما يكتبه قد تشير إلى ذلك فعلاً.
لقد جاء ما في مقالتي ( نصيحة مفتوحة إلى المالكي — ) ليس بفعل الطائفية التي أوحى كاتب “المراهقة” بأني انتمي إليها ، ففي حساب الانتماءات ، تظهر الشيعية صافية نقية لا تشوبها أيدلوجيا ولا خلط في الأصول أو البؤس في الحُكم أو الغشاوة في الرؤية أو الاختلاط في الرأي ،وصفاء شيعيتنا في إننا تعلّمنا من الحسين أن نكون مع المظلوم ايّاً يكن مذهبه أو طائفته أو دينه ، ضد الظالم أيّاً يكن ، ومن ثم لا نتلون كما الحرباء تغير جلدها ، فكما كنا ضد دكتاتورية وظلم صدام حسين وقتله لشعبنا، ولم يستطع احد أن يفرض علينا ثنائيته الجهنمية في أن نكون مع الغزو الأمريكي أو مع نظام صدام ، لأن كلاهما وبال على العراق الذي من حقّ شعبه العيش بحرية وكرامة بعيداً عن القمع أو الاحتلال، كذلك على كلّ إنسان حرّ شريف أن يرفض الظلم والقتل، سواء جاء من النظام السوري بآلة قمعه المدمرة، أو من الإرهابيين والمجرمين بكلّ أحقادهم وتشددهم ، فليس هذا قدر الشعوب أن توضع في موقع المفاضلة بين قاتلين ،وليس هناك من بون شاسع بين قاتل وآخر في النتيجة ، كما يزعم ذلك “الكاتب” .
لقد أمضى السوريون أشهراً وهم يتظاهرون سلماً قبل أن يجدها الإرهابيون فرصة للدخول بينهم في محاولة لمصادرة ثورتهم وتضحياتهم في سبيل الحرية، وقد أعترف بشار الأسد بنفسه في لقاء متلفز ( أنهم حاولوا إسقاط سوريا بالتظاهرات ولم ينجحوا ) كما تناقلت وسائل الإعلام مشهد الآلاف من السوريين وهم يتظاهرون سلماً ، وقد شهدتُ بعضها بنفسي عياناً وعن قرب ،
ولكي ننتقل من الحديث العام إلى الواقع الملموس ، سنأخذ مثلاً عن عراقي يتعاطف مع النظام السوري بحقيقة انه ممانع ومقاوم وينتقد بشدة من ( يقارن بينها وبين موقف ” المقاومة والممانعة ” ناسيا أن المقاومة والممانعة حقيقية منطقية لا تغيبها ألأحقاد الطائفية , ولا تلغيها ألآراء الجاهلية ) أوفي قوله (ومنهم من لايفرق بين العصابة وأجرامها وما أنتجته من فوضى , وبين الجيش النظامي الذي يواجه التمرد والفوضى القاتلة , وعقلية من هذا المستوى لا تؤتمن على شيء , فكيف يراد لها أن تؤتمن على البلاد والعباد) هكذا نصّاً كما جاء في مقالة ذلك الكاتب .
تعالوا أيها المراهقين – العراقيين خصوصاً – لنرى ما يحتويه هذا الخطاب :
1- هل كان صدام حسين يستخدم الورود البيضاء والأيادي الناعمة في قتلنا ؟ ألم يستخدم الجيش النظامي لقمع ما وصفه يومها بالغوغاء والمجرمين الذي أرادوا نشر الفوضى والتآمر على العراق بدعم خارجي ، كما كان يزعم هو وأزلامه وأبواقه وكتبته ؟ أم إنه وصفهم بالمواطنين الطيبين ، وإنه أرسل الجيش النظامي فقط لفرك آذانهم وتخليصهم من بلوى المنتفضين على حكمه؟ وهل قُصفت حلبجة بالرياحين وماء الكولونيا بواسطة طائرات الرش الزراعية ؟ أم قام بها الجيش المظفر بأسلحة الإبادة وبالطائرات الحربية ؟ وبماذا قُتل ضحايا المقابر الجماعية ؟ هل بعيدان القصب أم بأوراق البردي ؟ بالله عليكم إلى أية جهة ملتم ، وبأي رأي تؤمنون :هل هذه عقلية بمستوى يمكن أن تؤتمن فيه على شيء – أي شيء – ناهيك بالبلاد والعباد ؟ وهل يمكنها التورط بفعل معرفي بمستوى الكتابة ؟.
لم يمارس هذان النظامان القصاص الفردي بواسطة القانون ضد من ارتكب جريمة، كي نقول إنهما طبقاً الآية الكريمة “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” ولم يُنتخب أي منهما بشكل ديمقراطي سليم لم تتدخل فيه أجهزتهما القمعية لتأتي نتيجته 99،99 % كما جرت العادة في انتخابتهما المزعومة ليبقى ( القائد الأوحد خالداً إلى الأبد ) فذاك استولى على السلطة بانقلاب عسكري ، وهذا بالوراثة عن أبيه الذي جاء كذلك بانقلاب عسكري ، وقد مارس الإثنان قتلاً جماعياً وتدميراً للمدن والقرى على رؤوس أهلها ، وفتكا بوحشية كل من تجرأ وأبدى رأياً يحمل تذمراً أو انتقاداً خجولاً ، لذا ليس من عاقل يتصور إن كل سكّان تلك المدن المدمرة ، هم من العصابة و إجرامها ، وبالتالي ليس بينهم أطفال أو أبرياء لا تستطيع الطائرات الحربية ولا الصواريخ الباليستية هائلة التوحش إن تميز بينهم وبين العصابات المسلحة ، ثم إذا كانت المعارضة السورية كلها من العصابات الإرهابية ،فكيف اعترف بها أكثر من نصف دول العالم الديمقراطي ؟ بل كيف أبدى النظام ذاته استعداده للحوار معها ؟ ولماذا تلقت دعوات حتى من الدول الداعمة للنظام السوري ؟
2: لم تمض سوى سنوات قليلة على الشكوى الرسمية التي تقدمت بها الحكومة العراقية إلى الأمم المتحدة ضد النظام السوري، متهمة إياه بالوقوف وراء التفجيرات التي ضربت وزارة الخارجية والمالية وبعدها وزارة العدل ، وما أوقعته من مئات الدماء العراقية الطاهرة ، إضافة إلى مئات الاعترافات التي نقلتها الفضائيات العراقية عن إرهابيين تدربوا في سوريا ودخلوا منها ، تلك حقيقة منطقية لا تغيبها السفسطات الطائفية ولا تغليها الآراء الجاهلية – باستعارة الكلام المنسوب أعلاه – ومازالت ملفات وزارتي الداخلية والعدل تغصّ بالكثير من الاعترافات من هذا النوع كما بات معروفاً، كذلك سمعت من المالكي شخصياً وفي جلسة خاصّة معه قبل استلامه منصب رئاسة الوزراء ، كم إن السوريين يساهمون برفع مستوى الإرهاب في العراق ، وقد طرح يومها أن بعض القيادات العراقية طالبت أن يقوم العراق بالرد على النظام السوري بالطريقة عينها (سيارة بسيارة وعبوة بعبوة ) لكن الاقتراح رفض بإباء كي لا نسلك الوسائل ذاتها التي يتبعها النظام هناك ، فما ذنب الشعب السوري بما يفعله نظامه ؟ نصّ المقابلة مثبت في كتابي ” قلق التاريخ وعقدة القوة – من قساوسة المالكي ، إلى جدائل إليزابيث – الصادر في بيروت عن دار العارف – كانون الثاني 2010″ ووصلت النسخة الأولى منه إلى المالكي شخصياً ، فهل هناك حقائق منطقية أكثر من ذلك ؟ وهل المقاومة والممانعة تعني إن لا بأس لو تمت بأجساد ودماء العراقيين وتدمير مستشفياتهم ومدارسهم وأسواقهم ومساجدهم ؟ .
في 6/6/ 2011، ومن قلب دمشق التي بدأت حراكها قبل ذلك بأشهر قليلة ، كتبت مقالاً بعنون “روسيا “الصفوية” – أمريكا “العثمانية” وحقل اسمه الشرق ، بعدها في (27 /8/ 2011- كتبت مقالاً – ومازلت في قلب الشام – بعنوان ( مشاهدات سورية بعيون عراقية ) ثم في 12 /3/ 2012 مقالاً ثالثاً بعنوان ( سوريا / العراق – صورتان متناقضتان لمشهد واحد ) وجميعها منشورة في جريدة المواطن العراقية بالإمكان العودة إليها لرؤية ماذا يعني التحليل الموضوعي طبقاً للمعطيات وتوقعاً لمساراتها اللاحقة .
في ( حزيران 2009 ) نشرت مقالاً بعنوان ( هل بدأ التغيير في المنطقة ؟ – مصر – سوريا – اليمن – السعودية – على أبواب العاصفة ) في جريدة ( خطوة نحو الحقيقة ) البغدادية الأسبوعية ، ثم في مقدمة لكتابي أعلاه ،جاء عنوانها ( على أبواب العاصفة – سيخرج العراق من أزمته ، في وقت يدخل الآخرون أزماتهم ) ، وقد دخل الآخرون أزماتهم فعلاً ، وكان يفترض بالعراق أن يخرج من أزماته لولا أن هناك من يرى الأمور ، ليس بعقلية المراهقين وحسب ، بل بتخلّف أين منه تخلّف المصابين بقصور عقلي .
الخلاصة من ذلك، إن المواقف السياسية لا تتم بناء على نكايات أو أحقاد ، لكن بقراءة متأنية للأحداث والمعطيات بدقة ودراية ، لتبنى عليها سياسات سليمة تقدم حلولاً وتنقذ بلداً وشعباً يتخبط في مشكلاته وأزماته وتتجنب كلّ ما يمكن إن ينعكس عليه سلباً ،ذلك ما ينبغي أن يتكفل به البحث الموضوعي والمواقف الناضجة التي بإمكان صاحبها إن يدّعي وعياً واكتمال عقل قبل أن يتهم الآخرين بـ “المراهقة” التي لم يبلغها هو نفسه بعد كما تشير كتاباته ومواقفه ، والأدهى إنه لا ينظر بفهم إلى ما يكتبه الآخرون ،بل يسطّر ردوداً بخفة وسطحية ما أن يرى جملة أو سطراً يستفز ما يعتقد به ، من دون أن يربطه بسياقاته وموضوعه ، فما جاء في مقالتي ( نصيحة مفتوحة — – ) إنما قارن بين خطابين وجدا فعلاً ومازلا حاضرين، بغض النظر عما يتبناه هذا الطرف أو ما يبرره ذاك، وهي مواقف تبز النظر في حقائقها، وليس من إنسان عاقل يستطيع إنكارها ،وبالتالي لم يفاضل المقال بينهما ، لأن من الخطيئة الانحياز إلى أي من طرفين يمارس أحدهما القتل الجماعي بالطائرات والمدافع والصواريخ ، والآخر يمارس القتل بالعبوة والبندقية ، بل ينحاز إلى الإنسان في حريته وكرامته وأمنه، من دون النظر إلى طائفته أو دينه أو قوميته ،فإذا كانت تلك هي المراهقة، فنعم ونعم ونعم ، أنا أول المراهقين ، وشكراً لمن وصفني بذلك ، لكني اكرر نصيحتي له كما نصيحتي للمالكي : مارس الكتابة بمعرفة أو أصمت بحكمة ، ولا تجعلوا حالنا معكم ،كحال (برنارد شو) مع تلك المرأة التي طلبت منه الزواج كي ينجبا ولداً يرث جمالها وذكاءه فيكون أعجوبة للناس ، فقال لها : وماذا لو ورث دمامتي وغباءك ؟ سيصبح أضحوكة للناس — ونحن كعراقيين لا نريد أن نصبح أضحوكة للآخرين ولا ألعوبة بأيديهم ، بفضل جهودكم ، لأن لدينا من الجمال ما يكفي ، ومن الذكاء ما يستر حالنا ، كي لا نصدّق ما تقولون ولا نرى حسبما تريدون ، وإن أخطأنا مرّة وخُدعنا بكم ، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ،ورحم الله محمود درويش الذي قال 🙁 لستُ أميّاً بما فيه الكفاية ، فابعدوا عن لغتي ).
ملاحظة : اعتذر مسبقاً من القراء الأفاضل لاضطراري إلى الرد بهذه الطريقة ، ذلك لأن جلّ اهتمامي يتركز حول البحوث والدراسات المخصصة لشؤون الفكر السياسي ولا شأن لي بالمناكفات والمهاترات وإطلاق النعوت على الآخرين ، لكني انطلقت من القاعدة القائلة : واحدة بواحدة والبادئ أظلم ،وبالتالي فلا يعنيني مسبقاً ما قد يردّ فيه أحدهم على هذا المقال ، على أن يلتزم بأصول الكتابة فيما نرجوه جميعاً .