23 ديسمبر، 2024 5:26 ص

منظومة القيم وواقع الفساد في العراق

منظومة القيم وواقع الفساد في العراق

ليس في وسع أي مجتمع بشري أن يصلح أي شأن من شؤنه المختلفة سواء كانت السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية مالم يمتلك منظومة أخلاقية أو قيما إنسانية ، لأن تلك النظم الإخلاقية هي القاعدة التي افترضها الله لتكون قاعدة صلبة تبتنى عليها الحضارات ، وبما أن الإنسان هو المحور في الحياة وأن الله قد خلق الكون من أجله ، فقد جعل الله إكرام هذا الإنسان أو إهانته هو المعيار لرضاه أو معصيته من جميع الأمم سواء كانت مؤمنة به أو مشركة ، ولذا فإن الرسول الكريم أشار لذلك بوضوح عندما بين أن الهدف من مجيئه عليه السلام هو ( ليتمم مكارم الأخلاق ) ومكارم الأخلاق تعني الإستقامة في السلوك البشري في كل الميادين ، وأن المحصلة النهائية لتلك الإستقامة تصب أولا وأخيرا في مصلحة الإنسان ذاته ،  فلو افترضنا سيادة تلك المكارم في مجتمع ما فذلك يعني بلا شك غياب الفساد والفقر والخيانة ، ولمِا رأينا تلك الشراهة على الدنيا والتي طالما تكون المدخل لكل تلك الخصال السلبية التي تدفع بالمجتمع نحو الهاوية .
لقد أشار أحد الأخوة مشكورا إلى أهمية منظومة القيم في إمكانية الإصلاح في المجتمع العراقي ، وكانت تلك الإشارة ضمن ( تعقيب ) على الحلقة السادسة من سلسلة مقالاتي ( حزب الدعوة إلى أين ) وطلب مني أن أتناول هذا الموضوع ولو بشكل موجز ، وأنا اشاطر الأخ الفاضل في أن اس المشكلة التي يعاني منها الشعب العراقي بعد سقوط النظام البعثي  هو افتقارنا لمنظومة إخلاقية يمكن لها أن تسد الفراغ في غياب قوانين صارمة تردع النفس البشرية في أن تعبث في مقدرات الأمة ،  كما هو لدى المجتمعات المتطورة شرقا وغرباً  ، والتي جعلت من القوانين الوضعية سيوفا مسلطة على كل من يريد أن يغلب مصلحته أو يستخف بالمصالح العامة ، فمجتمعنا العراقي يعيش حالة متقدمة وخطيرة من النفاق الديني ، في غياب مثل تلك القوانين الوضعية والقيم السماوية في آن واحد ، وهذا النفاق بدا واضحاً من خلال طبيعة ممارسة أغلب القادة الإسلاميين ( شيعة و سنة ) ( معممين وأفندية ) مع الواقع السياسي والاجتماعي ، حيث غلبت الازدواجية على أخلاقية الكثيرين وخاصة أولئك الذين تسلموا المواقع القيادية في المجتمع . ففي الوقت الذي نسمع فيه خطاباً مهذبا يؤطره ( الدين والإخلاص ) نرى على أرض الواقع ممارسات تختلف تماما ترفل بالفساد والكذب والنفاق والتحايل وتغليب المصالح الشخصية والحزبية ، الأمر الذي دفع بالبلد وكما نراه اليوم صوب منزلق سياسي واجتماعي خطير ، اضعف منزلتنا في المنطقة وأسقط هيبتنا أمام شعوب العالم ، وعمق مظاهر الفقر والتخلف إلى درجة اصبح العراق محط سخرية الشعوب الأخرى بعد أن صنفت المؤسسات العالمية المتخصصة العراق كبلد يتصدر قوائم الفشل والفساد والتخلف بل وحتى قذارة عاصمته ومدنه . ولعل من الغريب هو أن قادة العراق الحاليين الذين يتصدرون المشهد السياسي لايشعرون بأي حرج من ذلك التصنيف المشين ، وهذا دليل كبير على عمق وخطورة الأزمة الإخلاقية التي نعيشها في ظل الحكومة الحالية .
فمشكلتنا إذن هي في تلمس الطريق نحو قيم جديدة ، والبحث عن نظرية  رصينة وجهود تصحبها ، تتلائم مع الخصائص التي يتميز بها مجتمعنا ، فكل المجتمعات الإنسانية التي سبقتنا في هذا المضمار استطاعت أن تحقق هذا الهدف الخطير من خلال إطروحات حقيقية درست الواقع بشكل دقيق ، ووضعت سلما للأوليات في عملية التطبيق ، فمثلاً كان المجتمع الأوربي في بداية الطريق قبل مئات السنين يبحث في كيفية التطهير السلوكي للفرد والجماعة ، الذي يشغلنا نحن اليوم في الألفية الثالثة ، وكانت المعاهد الأكاديمية تبحث عمن يدلها إلى طريقة لذلك التطهير ، ويحدثنا تاريخ عالم الاجتماع ( جان جاك روسو ) أنه كتب أول مقال  سنة 1749 أجاب فيه عن سؤال خطير وهو (هل إحياء النشاط في العلوم والفنون سيؤدي إلى الإسهام في تطهير السلوك الأخلاقي ؟ . وكان لذلك المقال ولمقالين أعقبهما تتحدثان عن العدل والمساواة دور كبير في فتح المجال أمام التغيير الكبير في أوربا بل أن الثورة الفرنسية قد استوحت مفاهيمها من تلك الأفكار ، ونحن بعد أكثر من قرنين ونصف هل يحق لنا أن نطرح السؤال ذاته ، الذي يتضمن رغبة حقيقية في تمكين النبل الإنساني والمباديء والقيم التي من شأنها أن تنقذ المجتمع ، من سلبيات السنين العجاف الماضية ، وتعمل على فك أسرنا من مظاهر الفساد و التخلف الحالي ، وهل نجد عقلاً بمستوى العقول التي وضعت اسس التصحيح في المجتمعات الأوربية التي نتهمها بالمادية وبالكفر أو الشرك ؟ من في وسعه أن يجيب على السؤال التالي : هل المعاهد المعرفية في العراق والحوزة الدينية ذات العمر المديد الذي يمتد إلى ألف سنة رسمت لنا خريطة واضحة للقيم الإنسانية المتدهورة ؟؟ وإذا أردنا أن نتجول في دهاليز المدارس الإسلامية في النجف ودواوينها ، فماذا نجد في حلقات الدرس ، علماء في ألاجتماع  والأخلاق أم جهابذة في الفقه والأصول ، نعم نجد علماء في الفقه وفلسفته وفي الإصول وفلسفتها واللغة وعلوم اللسان ، لكنك تفتقد إلى الأخلاق وفلسفتها وعلوم القرآن والمباديء التي وردت فيه ، إنك باختصار ليس في وسعك أن تجد بين طرق الحوزة مسلكا يقودك إلى فضاء الأخلاق ومنظومته التي هي عماد بناء الشخصية الإسلامية التي تصونها من خطر السقوط في حب الدنيا أو الانقياد وراء نوازع النفس المختلفة .  
لقد كتب المفكر الإسلامي الشهيد الصدر كتابه ( مجتمعنا ) وقد أثار رضوان الله عليه سؤالاً مهما ، يذكرنا بتساؤلات المصلحين في أوربا قبل أكثر من قرنين ونصف وهو : ( هل في وسع الإسلام إيجاد التوازن السليم والمنطقيّ بين المقياس الخلقيّ الّذي يضعه للإنسان ، وحبّ الذات المرتكز في فطرته ؟ ) .  والشهيد الصدر في تساؤله هذا يضع اصبعه على الجرح ، فكل مشاكلنا في الوقت الحاضر هو أن حب الذات وتغليب المصلحة الذاتية أو الحزبية هي الغالبة على تصرفاتنا قادة وعوام ، وقد أجاب الصدر : أن الإسلام يمكنه التوازن بين  المقياسين ، وساق اسلوبين يمكن من خلالهما تحقيق ( إمكانية التوازن ) .
الأول :  (تركيز التفسير الواقعيّ للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح ، كمقدّمة تمهيديّة إلى حياة أُخرويّة يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه ، في سبيل تحصيل رضى الله تعالى . فالمقياس الخلقيّ –  أو رضى الله تعالى – يضمن المصلحة الشخصيّة ، في الوقت نفسه الّذي يُحقّق فيه أهدافه الاجتماعيّة الكبرى ) .
 لكن الشهيد الصدر اعترف بعدم جدوى هذا الإسلوب مع سيطرة النوازع الدنيوية المادية على النفس البشرية والتي يغلب عليها مقاييس الربح والخسارة المادية الآنية .. فانتقل لمناقشة الأسلوب المطروح الآخر .
الثاني : وهو ( بتغذية الإنسان روحيّاً ، وتنمية العواطف الإنسانيّة ، والمشاعر الخلقيّة فيه متنوّعة ، بعضها ميول مادّيّة تتفتّح شهواتها بصورة طبيعيّة، كشهوات الطعام، والشراب، والجنس ، وبعضها ميول معنويّة تتفتح وتنمو إذا تُرك لنفسه – أنْ تُسيطر عليه الميول المادّيّة, لأنّها تتفتّح بصورة طبيعيّة ، وتظلّ الميول المعنويّة واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة ) لكن الصدر يستطرد قائلاً : (لذا أدرك الإسلام هذه المسألة فأوكل علاجها إلى قيادة معصومة مسدَّدة من الله تعالى ) . المدرسة الإسلامية 91
ونحن نخلص من خلال الإسلوبين أن إمكانية الإصلاح يمكن فقط من خلال وجود الإمام المعصوم وحسب ما ورد في الأسلوب الثاني ، وبما أن المعصوم غير موجود ، إذن مسؤولية التغيير وفي إصلاح منظومة القيم تقع على عاتق المجتمع ذاته بغض النظر عن التفكير الديني ، نعم يمكن الاستعانة بالمباديء والقيم الدينية التي تضمنها تراثنا الإسلامي وتراث أهل البيت ، لكن ذلك التراث يمكن الاستفادة منه كمخزون مفاهيمي يستفاد منه في إغناء التجربة الآنية التي يبادر إليها أي فرد من المجتمع سواء كان إسلاميا أو علمانيا.
وفي عودة للمفكرين الأوربيين ، نرى أن هناك فهما مغايرا بين ما أوردوه وما ورد في إطروحات الشهيد الصدر لمعنى منظومة القيم والأخلاق ، فمع أن ثقافة ( روسو) هي مسيحية كاثوليكية في بدايتها ثم برتستانتية ، لكنه أقر بأن تجريد نظريته من أي معنى ديني هو فقط من يقودها إلى النجاح وإمكانية تطبيقها ، وهو بذلك لا يعير لما  نسمية  ( بالضمير ) أو مخافة الله ، فمفهوم القيم ومنظومة الأخلاق عند علماء الإجتماع الغربيين هي تتعلق فقط بضمان مصالح الفرد والأمة التي من شأنها أن تستنقذهم من الفقر والتخلف المادي ، والبحث الجدي في إيجاد آلية لضمان تلك المصالح ، ولا تعير ( النظرية ) أهمية لممارسات الإنسان الأخرى التي لاتتعدى حدود الفرد أو المجتمع ، فيما يرى المسلمون أن للأخلاق أبعادا محددة ومنصوص عليها في الشريعة ، يتعلق بعضها بممارسات الفرد مع ذاته وأخرى تتعلق بالمجتمع  ، ومع أن قيم الأخلاق لدى المسلمين أكثر وضوحا لكنهم فشلوا في وضع آليات وضوابط يمكن من خلالها أن تهذب بالشكل الذي يمنع الإضرار بالفرد أو الجماعة ، ( ونعتقد ) أن من أسباب ذلك الفشل هو أن الأبعاد التي حددها الإسلام للمعايير الخلقية مختلف عليها ، ولطالما تناقضت التفسيرات لدى الطوائف أو الجماعات ، ومنها ( الجهاد مثلاً ) . فيما نحّت الشعوب الأوربية ومصلحوها ومفكروها أي معيار ديني جانبا ، ثم طفقت تبحث عن طرق للتغير حتى اهتدت إلى ( الديمقراطية ) وآلياتها ، وكان من أهم آلياتها القوانين الصارمة ،  والتي قال فيها روسو : (يتعين عليها أن تعبر عن الإرادة العامة للشعب )  ، وفي عبارته الأخيرة معنى دقيق وفي غاية الأهمية ، فالقوانين لديه ( إرادة ) لدى الشعوب ، والشعوب بلا إرادة  ، بلا جدار يحميها من أن تصبح نهشاً لعمليات الفساد والاستغلال ، وهذا ما نلمسه بشكل واضح في العراق ، فأغلب  مجالات الحياة المهمة تعيش فراغا قانونيا ، فيما تشغل قوانين النظام السابق (80%) من القوانين المعمول بها ، علما أن الأحزاب السياسية تشعر بارتياح كبير فأغلب تلك القوانين تمهد لها سرقة المال العام والاستحواذ على المكاسب ، وهي أيضا عاملاً مساعدا للإفلات من المحاسبة أو المسائلة القانونية .
لايمكن لأي أحد في ظل استحواذ القادة الحاليين على المشهد السياسي وقيادة البلد أن يفترض حلاً ، طالما أن التفكير في اسباب المشكلة ما زال غائباً ، وأن أسباب تفاقمها قائما ، بل مازال التفكير الجدي في أصل المشكلة بعيدا عن اهتمام مفكرينا ومن تقع عليهم مسؤولية التغيير ، ويزيد من تفاقم الأمر أن المجتمع العراقي قد ورث من النظام السابق ( تراكما سلوكيا سلبيا ) خلقته الآلة الإعلامية للنظام السابق والمنطقة ، وأعانت عليه اساليب البطش والإرهاب خلال عقود طويلة ، مما ولد رؤيا طائفية وخوفا وترقبا لدى المكونات الرئيسية ، هذه الرؤيا توظفها الأحزاب الحاكمة  اليوم ، توظيفا دقيقا لمكاسب انتخابية وأنا أعتقد أن لدى تلك الأحزاب خبراء ومستشارين أجانب يعملون على تعميقها ويصرفون من أجلها الكثير من ألأموال التي استحوذوا عليها من المال العام نتيجة لعمليات الفساد الذي يضرب بأطنابه وبحرية كاملة كل مرافق الدولة ، وهذا الواقع الذي يطرب إليه السياسيون ويجاهدون من أجل ترسيخه لأنه يضمن لهم مستقبلهم السياسي على حساب حاضر ومستقبل الأمة ، يشكل عاملأ إضافيا يزيد من تفاقم الأمر ويبعد المجتمع عن شاطي الحل .
إذن نحن مدعوون جميعاً إلى التفكير الجدي في خطورة هذا الأمر ، والطلب من قبل كبار المفكرين العراقيين وذوي الاختصاص في معاهدنا الأكاديمية وفي الحوزة الدينية ، من أجل وضع اسس لمشاريع اجتماعية تضع أقدامنا على طريق الحل ..