23 ديسمبر، 2024 9:09 ص

ثمة ثلاثة عوامل تحرك الدول في علاقاتها الخارجية وتصرفاتها على المسرح العالمي. عدد هانز جي مورجنتاو (1904-1980) هذه العوامل في كتابه “السياسة بين الامم” (الذي صدرت طبعته الاولى عام 1947 تمت ترجمته الى العربية عام 1965) على الشكل التالي: المصالح، توازن القوى، والمهابة. ونستطيع ان نراجع دور الايديولوجيا في العلاقات الدولية في ضوء هذه الثلاثية. قد نستطيع القول انه حتى الدوافع الايديولوجية من الممكن ان يتم تكييفها في ضوء المصالح والتوازن والمهابة او الهيمنة. يمكننا ان نحلل العديد من نماذج العلاقات الدولية، خاصة تلك الدول التي كانت تتحرك بناء على دوافع ايديولوجية، مثل الصين والاتحاد السوفياتي، ونكشف عن مدى صحة وصدقية هذه المقولة. السياسي البريطاني ونستون تشرشل اختصر النقاش بكلمته التي ذهبت مثلا واشتهرت في الافاق:”لا صداقات دائما ولا عداوات دائمة، انما مصالح دائمة”. حتى القران الكريم يقدم نموذج مرنا للعلاقات الدولية في قوله تعالى:”قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” – التوبة 29. تطرح هذه الاية الكريم امكانية التعايش السلمي مع غير المسلمين من اهل الكتاب، بالاوصاف التي تشرحها الاية، اذا دفعوا الجزية وهم “صاغرون”. وهذه الكلمة الاخيرة تتحدث عن مهابة وهيمنة الدولة الاسلامية. فاذا تحققت هذه المهابة والهيمنة، انتقل الحكم الشرعي من القتال الى اباحة التعايش السلمي مع هؤلاء. وهذه مرونة فائقة في التعامل مع الاخر المختلف. فليس قليلا ان ينتقل الحكم الشرعي من القتال الى التعايش السلمي، انه ينتقل من اقصى اليسار الى اقصى اليمين، مقابل غاية اخرى سياسية اخرى.
نحتاج ونحن نرسم سياستنا الخارجية وعلاقاتنا الدولية ان نضع هذه الامور بنظر الاعتبار. فنحن نتحدث عن دولة مهمة في الشرق الاوسط والعالم، وتتربع على ثاني احتياطي البترول، وتشتبك بعلاقات متنوعة مع الدول الاخرى، وكان لها دائما دور محوري، سلبا او ايجابا، في العلاقات الدولية والاقليمية. ولهذا يحتاج صانعو القرار وراسمو السياسة الخارجية العراقية الى رؤية واقعية للعلاقات الدولية. وهذه الرؤية الواقعية هي التي تقوم على الاسس الثلاثة التي ذكرها مورجنتاو: المصالح، والتوازن، والمهابة او الهيمنة.
من هنا تأتي تصريحات رئيس الوزراء نوري المالكي حول علاقات العراق الدولية في مكانها ووقتها. فقد قال قبل ايام:”لا نجد مصلحة في علاقات غير جيدة مع أية دولة” ولهذا يكون من الطبيعي ان “نعمل على إقامة علاقات طيبة مع جميع الدول”.
ومع “ان العراق يتمتع حاليا بعلاقات جيدة مع مختلف دول العالم” وعلى رأسها الولايات المتحدة وايران وغيرهما، فانه على استعداد للتحرك من اجل معالجة المشكلات التي تعاني منها علاقاته مع دول اخرى مثل السعودية وتركيا. “واذا كانت هناك مشكلة مع السعودية فنحن مستعدون لاستقبال أي مبعوث يأتي منها وأنا مستعد لزيارتها كي ننهي الخلاف”، كما قال المالكي، والامر ينطبق على تركيا، التي تشهد العلاقات معها تطورات ايجابية ملموسة في الاونة الاخيرة. حيث “صدرت إشارات إيجابية من تركيا ورحبنا، كما قال المالكي، بذلك وسيقوم وزير الخارجية التركي بزيارة بغداد وسأقوم أنا بزيارة تركيا وسيزور رئيس الوزراء التركي العراق.”
تشهد العلاقات الدولية في الشرق الاوسط انفراجا ملموسا منذ التقارب الايراني الاميركي. وليس سرا ان حجما مهما من الصراعات في الشرق الاوسط هو انعكاس للعلاقات الايرانية الاميركية، وانعكاس ايضا للسياسات التركية السعودية. في اطار هذا المربع يستطيع العراق ان يلعب دورا محوريا ايجابيا، ليس فقط لانه يكاد يقع وسط هذه الدولة جغرافيا، بل لأنه قادر فعلا على اقامة علاقات ايجابية معها جميعا، فضلا عن الولايات المتحدة التي يرتبط معا باتفاقية الاطار الاستراتيجي، من اجل تطبيع الاوضاع في الشرق الاوسط. سوف ينعكس هذا التطور الهام ايجابيا على الاوضاع في سوريا والعراق، وسوف يؤدي الى تضييق الخناق على القاعدة واخواتها.
منذ القدم كان السلام والتعايش في الشرق الاوسط من شروط استقرار المنطقة وتحقيق التنمية والتقدم لبلدانها وشعوبها. وهذه الشعوب التي انهكتها الحروب الشرق اوسطية الكثيرة تحتاج الان الى فترة استراحة استراتيجية طويلة اكثر من أي وقت مضى.
هذه هو منطق الدولة.