لم أشأ اسأل صديقتي المطربة اللبنانية الصوفية ( جاهدة وهبة ) وأنا في تواصل دائم معها عن سر إغواء الحرف في قصيدة بيروت للشاعرة لميعة عباس عمارة وهي تشدو بها في صوتها لتظهر لنا حلم أنثى مدثرة بأثير المدن وحنانها وامتزاج عاطفة التعميد الأول الذي عمد فيها نبي الشاعرة لميعة ( يحيا ) المعمدان ليسوع ( ع ) .
ولأتذكر أنا مع صوت جاهدة وهي تطربني بجمال عروس المتوسط يوم منحت الدولة اللبنانية الشاعرة لميعة عباس عمارة وسام الأرز الرفيع لكنها أجلت استلام الوسام تلاحما مع محنة لبنان وحزنه من حربه الأهلية وقالت : (على أي صدر أحط الوسام ولبنان جرح بقلبي ينام…)
وهي التي كرمها شاعر لبنان المهجري الشهير إيليا أبو ماضي وهو يقرا قصيدة كتبتها في الرابعة عشر من عمرها في مجلة السمير عندما قال : (إن في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق..! )
نزلت لميعة عباس عمارة من الأمكنة القصية العالية إلى مدن الشعر كما تنزل النيازك في ظاهرة نادرة لترتطم بالأرض وجعاً ولمعاناً وصوتاً …
مندائية من جنوب يخضبُ جسدهُ بعطر الطين وشهوة القصب وإيماءات السمك المحتفي وهو يداعب بذيله الفضي الهواجس الخفية لسكان المدن المبتلاة بالفقر وغرام الآلهة اللائي سُحرن من أغواءات هذه الموحدة الآتية من أساطير ملاك النور في طائفتها ( زيوا ) لتنشد بهجتها منذ ليل طفولة سماوات مدينتها العمارة الغافية على أديم دجلة وعطر الأهوار وأناشيد ديوك سطوح الإيقاظ المدهش لعطر الشمس.
منتشية من موهبتها في الانتباه إلى إيقاع قلبها وهو ينبض بالسحر المجهول ولتجعل آلهة أزمنة المكان من لحظة شبعاد حتى معطف السياب يشد فتنة السماع لهذا الإيقاع الأنثوي المسكون بألف سيمفونية وألف نافذة وألف دمعة تشد خاصرة الغرام الشهي لحرف مضيء وقداس ترتلهُ الأناشيد المندائية الأولى حتى أن شيوخ الطائفة مسكهمُ الصمت لموهبةٍ من إناثهم تقول :
(( لماذا جعلت طريقي انتهاء وألغيت قدسية الذاكرة.. ؟
أكان اكتمالا لمجدك أن سيقال وهامت به الشاعرة …! ))
يمتلك شعر لميعة عباس عمارة موسيقى طافحة بالشجن ويصبغها هوس من لمعان أنوثة تسجل لوجدان الشاعرة مساحة متسعة من بهاء خيال الشعر وأداءه المؤسطر بإيقاع انسيابي مؤثر وبتناسق مع إحساس مرهف يشعله مؤثر بسيط ولكنه كوني المشاعر وملتصق بهاجس المكان وبيئته وانتمائه لأساطير ما يتلبسه وما يؤمن فيه من سحر المذهب والثقافة والذكريات.
ظلت هذه الغنائية المسكونة بأجراس نبض القلوب والحروف المنتقاة بعناية لتسجل عاطفة المرأة التي أذهلت ببراءة أنوثتها الأدبية وملكتها الشجاعة هواجس السياب الكبير وليخلد فيها شبابيك إعجابه بالأداء المشع لزميلته وهي تواسيه بابتسامة ومودة المكان الدراسي ليأخذ السياب الأمر على محمل جد ويفتح نوافذ قلبه لهيام عاطفته الرقيقة أمام أي نسمة تبتسم أمامه وينتابه حماس نسج الأساطير في اعتقاد منه أنها حقيقية ، وفي النهاية يقتنع الشاعر بمصيبته ليكتب لسان حال وقيعة ما يحدث له مع النساء في حقيقته: يا ليتني كنت بديواني لأفر من صدر إلى ثاني
قد بت من حسدٍ أقولُ له ياليت من تهواك تهواني.
لك الكؤوس ولي ثمالتها ولك الخلود وأنني فاني.
واعتقد إن السياب ربما لم يكن موفقاً في قصد الفناء لجسده لأنه أبقى لنا خلودا يقترن بذلك الجسد النحيف وكما يقول اراغون :الشاعر الحقيقي بسبب قصائده العظيمة لن يفنى لا روحا ولا جسدا …!