18 ديسمبر، 2024 7:46 م

منتسبو أمن صدام، من أين جاؤوا؟ وأين ذهبوا؟

منتسبو أمن صدام، من أين جاؤوا؟ وأين ذهبوا؟

بعد خروجي من العراق على أثر ملاحقة أجهزة أمن صدام حُرمتُ من الوطن ومن فيه اربعين عاماً، ولما عدت اليه بعد سقوط الطاغية التقيت في النجف بصديق طفولة قديم. لم يكن بامكاني ان اعرفه لو رأيته، ولم يكن بامكانه ان يعرفني لو رآني، فأربعين سنة من الزمن تحفر اخاديدها في الذاكرة كما ترسم تجاعيدها على الوجه، لكن الظلامة التي تعرض لها هذا الصديق جعلته يجول على القادمين بعد السقوط يتسقط اخباري لعله يعثر على من يدله عليّ، وهكذا تمكن بعد جهد جهيد من ايصال رسالة شفوية اليّ عن طريق أحد اقربائي فقررت الذهاب اليه.

بعد ان التقيته حكى لي ماذا تعرض له من ظلم بسبب علاقة مصاهره تربط ابنة عمه بعائلتنا! فقد اكتشفت الاجهزة الامنية تلك العلاقة البعيدة فوضعته على القائمة السوداء لانه منتسب لسلك الشرطة، ولا يجوز ان تكون لأحد من عشيرته حتى علاقة مصاهرة مع احد من عشيرة مطلوب لجهاز الامن الصدامي.

لقد تسببت تلك المصاهرة في مصادرة كل حقوقه وتجميد ترفيعه وتحديد راتبه ووضعه تحت المراقبة بعد نقله الى قسم المرور، ثم تعريضه الى ضغوط كثيرة لست في معرض الحديث عنها، لكنه بعد السقوط بدأ يبحث عن شخص له مكانة في الدولة لكي ينصفه ويعيد له بعض حقوقه المصادرة، ولم يجد سواي صديقا لِطَيفٍ من كبار السياسيين الذين استلموا مناصب كبيرة.

نقل لي هذا الصديق القصة التالية:

في أوائل مجيء البعث وبداية انتسابي لسلك الشرطة وصلنا كتاب رسمي يدعو منتسبي الشرطة الراغبين بالانتقال الى ملاك مديرية الامن العامة الى تسجيل اسمائهم. وقد علمنا ان رواتب وامتيازات منتسبي الامن تفوق رواتب وامتيازات الشرطة باضعاف، ولم يكن جهاز الامن بهذ الحجم والخطورة، ولم تكن يومها قد اتضحت الصورة الكاملة عن بشاعته.

قمت بتسجيل اسمي مع الكثير الذين سجلوا اسماءهم وذهبت القائمة الى بغداد.

بعد مدة وصلنا كتاب من مديرية الامن العامة في بغداد يدعو الذين سجلوا اسماءهم الى الحضور الى اجتماع في قصر النهاية (الذي كان مقر الجهاز وقتها) لغرض استكمال اجراءات الانتقال الوظيفي.

وصلنا الى هناك ودخلنا الى قاعة كبيرة اتسعت لكل المتقدمين القادمين من جميع انحاء العراق، وجلسنا في انتظار الاجراءات.

بعد فترة وجيزة دخل علينا مدير الامن العام وقتها ناظم كزار (الذي شارك لاحقا في محاولة انقلاب ثم تمت تصفيته).

صعد ناظم كزار الى المنصة ولم يكن يحمل اي اوراق، ولم يرافقه اي مساعد. تناول المكرفون وبدأ مباشرةً بالكلام قائلاً:

” كل من لم تكن أمّه……. فليخرج من القاعة ”

صقعت حين سمعت هذا الشرط!!

يا للهول…انه يبحث بصراحة عن ابناء العاهرات ليشكّل منهم جهاز الامن!

قمت وقام معي بضعة افراد لكي نخرج فأوعز ناظم كزار الى البواب باغلاق الباب وراءنا لمواصلة اجراءات التعيين في الأمن للمتبقين الذين اقرّوا على انفسهم بتوفّر الشرط المطلوب!

***

ونقل لي معتقل شيوعي التقيته اوائل السقوط في بغداد وهو طبيب اسنان اسمه الدكتور… الأنصاري (نسيت اسمه الاول) القصة التالية:

كنت معتقلاً في زنزانة في الشعبة الخامسة وكانت في الزنزانة المجاورة لي معتقلة من حزب الدعوة. دخل عليها عنصر الامن وتكلم معها بكلمات بذيئة جداً جداً طالباً منها الاستعداد للاعتداء على شرفها. كانت المرأة محاصرة في زنزانة لا تسمح لها باي تحرك، ولا تجدي معه اية مقاومة.

لجأت المرأة الى التوسل به فلم ينفع التوسّل، وأخيراً لجأت الى آخر حل، حاولت ان تستثير فيه الغيرة على العرض، وهي الغيرة الموجودة عند كثير من المنحرفين والمجرمين. قالت له:

ارجوك، اعتبرني اختك

لكن عنصر الأمن اجابها على الفور مستعملاً نفس الكلمات البذيئة:

انا (….) اختي ايضا.

***

لم اكن لاصدّق هذه القصص لولا اطلاعي على معلومات وقصص اخرى تشترك بنفس المضمون نقلها لي المجاهدون الذين ذاقوا مرارة التعذيب البعثي في اجهزة امن صدام والذين اكتشفوا جميعاً أن بذاءة اللسان التي سمعوها في دوائر الامن هي سمة مشتركة لعناصر الامن الصدّامي، وان هذه البذاءة كانت فريدة لم يسمعوها من أبناء الشوارع وهي لا تليق الا بالذين توفّر فيه الشرط الذي حدده مؤسس الجهاز الامني البعثي.

***

من هذه الطبقة تشكل جهاز الامن الذي أصبح من ارقى الاجهزة الامنية في المنطقة والعالم والذي توسّع وتضخم حتى ضم مئات الالاف من المنتسبين الذين انتشروا في كل مفاصل المجتمع والدولة يحصون على الناس انفاسهم ويرفعون التقارير عن كل حركة وسكنة تصدر من صغير او كبير في الشارع والمدرسة والمصنع والمقهى، او يمارسون التحقيق والتعذيب مع المعتقلين او يتغلغلون في الجامعات الاكاديمية والحوزات العلمية والتجمعات والاجتماعات لكي يصبحوا جزءً غاطسا من كيانها ينفع اذا تغيرت الدنيا ليخرجوا بلباس جديد يخفي الجسم القديم.

لقد عرفتُ من اين جاء عناصر الامن في العهد الصدامي،

لكم من يعرف اين ذهبت هذه الالوف المؤلفة في العهد الجديد؟

هل تساعدنا موهبة ” بذاءة اللسان ” في التعرف على بعضهم في لباسهم الجديد؟