22 نوفمبر، 2024 11:07 م
Search
Close this search box.

منبوذ حكومي

تعرفت عليه في الجامعة بعد ان اوصاني به صديق عزيز، يفرق عني بمرحلة ويزغّرني بسنتين، شاب وسيم وشهم، يدرس ويعمل ليعين اهله. إلا ان مستواه الدراسي كان ضعيفاً. تعرفت عليه عن قُرب، او ارتاح الى رفقتي, لافرق، بعد أنّ اصبحت لقاءاتنا شبه يوميه. عيبه الوحيد -بالنسبة لي- انه كان دائم الشكوى، يعتقد ان العالم قد تحالف ضده، عكسي تماماً، فأنا ارى أن العالم لايهتم لوجود الهامشيين امثالي.
لم اعتقد يوماً أنَّ شخصيتي تنطوي على مميزات معينه، لكن, وتدريجيا كنتُ الاحظ صديقي يردد شيئا مما كنا نتناقش حوله، وبدأ يتحدث عن ظروفه الدراسيه السيئة، و يستشعر لوحده اسباب الفشل.
حين كنت على وشك التخرج، كان صديقي من اكثر طلاب مرحلته تفوقا، وهذا الأمر كان يشعرني بالفخر، يعتذر لينصرف سريعا بعد التحية المعتادة ليراجع مواده، ولايرغب بالحديث اكثر.
بعد التخرج، قل اتصالي به ولكنه لم ينقطع، واستمر صديقي متفوقا بعد ان خِبرَ الطريق,
كان ذلك قبل خمس سنوات، وانقطعت اخباره تدريجيا.

ولكن هناك اشياء لا تُنسى او لايمكنُ لها ذلك. اغلب البشر يحتفظون في مكانٍ ما من ادمغتهم بذكريات عزيزية, جميلة, حزينة, مؤلمة, مهما تعددت تسمياتها ودلالاتها ستبقى ذكريات مهمة بالنسبة لهم, ساهمت بتشكيل ذواتهم من جانبٍ ما, وسيكون لها اثر واضح على تصرفاتهم وقراراتهم المستقبلية, وهذا ماتركه صديقي لي, ليبقى على الدوام شخصا يرواد افكاري. اين هو الآن؟, ماذا يعمل؟, هل يتذكر الموقف الفلاني؟, هل يتذكرني اصلاً ؟!, ام نُسِّيت كما تُنسى الناس هذه الأيام ؟!.

قد تكون الأحاسيس الأبوية هي ماجعلتني دائم التفكير به, فقد كنت اشعر اني مسؤول عنه, ربما نعم, وربما اشياء اخرى. فنحنُ لاننسى اولئك الذين نشترك معهم في خيبات الامل والحظ العاثر. قد تكون غريزة البقاء هي مايدفعنا للتضامن مع الذين يشاركوننا الهمّ ذاته, على الأقل, لنتشارك الحُجج البائسة عَيّنها, ونستهلك الشتائم السخيفة ذاتها !.

اذكر انه وبُعّيد معرفتي به بقليل, كان مشوش البال مَحّزونهُ, ينصرف احياناً من دون سبب ظاهر, او كان ظاهراً ولكني لم الحظه. كان مغرماً بزميلة له, اصابهُ حُبها في مقتل, تَعّرِفْ ذلك فتقّوت عليه, لم اسألهُ, تجنباً للإحراج, كما أنَّ طبيعتي لاتستسيغ التدخل في الشؤون الشخصية للآخرين, وذات يوم صارحني بذلك بعد ان سَدَّتْ جميع طُرق الوصال بوجههِ من دون حَلقة تٌطوق اصبعها اللعين!, سألني الرأي والنُصح, وانا الغريق التائِه!. ولكننا في العادة, مميزون حين يتعلق  الامر بقضايا بعيدة عن اجواءنا الداخلية, مُصيبين جدا في فلسفتها وردها الى الصواب, لأن الأفعال التي ستتمخض عن نصائحُنا, يقع عبء ادائها على غيرنا!. كان يمكن ان تكون الحياة جميلة لبعضنا, لوكانت وظيفتهم إسداء النصائح للاخرين فقط, ولكن هذا هو المُحال بعينه, عليهم المشاركة ولو كلاعبين سيئين, لينالو شرف التجّربة, في مهزلة كبيرة اسمها الحياة.

كان عليَّ معرفة من يُحبها صديقي لأقدم له النصيحة. كانت قصيرة كعجوز تشدها السنين إلى الأرض, خفيفة الحركة, كجنية حقيرة, وجهُها مدور كالبومة, تجتهد في طلاءهُ بكل الوان الماكياج المتوافرة, حتى لتبدو كإحدى ساحرات الأفلام الكارتونية, ملؤها الشهوة, كأنها تنادي الرجال جميعاً!. حين عكست ذلك على ظروف صديقي الإجتماعية ادركتُ حقاً بأن الحب اعمى ولا يرى مواطن الخلّل.

كانت فرحتي غامِرة حين تَفهمَ صديقي وجهة نظري عنها, فقرر نسيانها والتوجه لدراسته مخُلصا, فنحن لا نتستطيع التخلص من إهتمام معين الا بالأنتقال لِآخر جديد, وكلما كان اخلاصنا للأهتمام الجديد كبيراً, كلما اسرعنا في نسيان ماقبله, هذه هي الحياة إدمان يلعّن إدمان!.

لن يكون بمقدوري أن لا اذكر موقفه معي حين أُخبِرت بنبأ خِطبة الزميلة التي كنتُ أُحبها, كانت تربطني بها علاقة جيدة ولكنها كَكُل الإناث الشرقيات, تبحث عن ذكر مضمون, فإختارت من تقدم وطرق بابها. كان انهياري مُريعاً, لم اتمالك نفسي امام صديقي الذي سَمِعَ بالخبر, فانفجرت باكياً بِحرقة. كان الجميع يعرف انها انثاي, لذلك كانت العيون قارِصة وشامِتة وقليلاً منها مواسية. في يومها ركبني الجنون او العبث لاأذكر بالضبط, اردت ان اكون لوحدي, لم يتركني, اخبرته باني سأعود للمنزل ماشياً, قال ان ذلك سيكون جميلاً, وفعلا عدنا مشياً, وعَرض أنْ نتغدى في احد المطاعم, غادرني الحياء في حينها فأخبرته, بأني لا احمل مايكفي من المال, وتكفل هو بذلك, بعدها ذهبنا الى محل للتسجيلات واشتريت شريط يحوي على كل اغاني عبد الحيلم حافظ, واصر هو على دفع المبلغ, كان يوماً مجنوناً, ولكنه سيبقى جميلاً إلى الأبد.

في احد الأيام وانا امشي سَاهِماً كالعادة, احاول سرقة شيء من ناصية الطريق، نُوديت (بس الله الجبير) سَمِعتُ وياليتني لم اسمع!.
كان صديقي الوسيم، بذاته، ولكنه خسر بعض صفاته!، على كرسي لذوي الإعاقة، بأقدام مشلولة، و أُذن صماء وانف لايميز الروائح!، بعد حادث مأساوي، نتج عن عمل اضطر اليه بسبب ظروف حياته الصعبة.

كان يشعر -وعلى خلاف نظرته الأيجابية- بشعور سلبي اتجاه العالم, فلم يعد يصارعه الآن, بل تخلى عنه نابذاً اياه!، لا احد يساعده سوى ام حانيه, مريضه, تعينه على قضاء حوائجه. والده كبير السن, يكد من اجل لقمة العيش, تغيرت سحنته وابيض رأسه حين توقفت أقدام من كان امله, ومتكأه يوم شيخوخته. اخوته, احدهم مريض بالتهاب الكبد الفايروسي, والاخر صغير همهُ لعبة, واخر غادر المنزل مع زوجته الى غير رجعة, وكأن حياته قد تَغَشَّاها الظلام!.

شَعَرتُ وكأنه قد استثمر فرصةٌ ما. كَكهربة سرت في جسده, رغبة جامحة تدفعه للبوح لشخص يثق به, كانت كافية لِتُدرِك, حجم عزلته في هذا العالم. حدثني خلال ساعة ونصف بما عاناه خلال خمس سنوات، وظروف سفره الى الهند للعلاج, والذي لم يسفر سوى عن ربط ظهره ليبقى (كَتجّوه) من دون فائدة اخرى. لا اخجل اذا قلت إنيّ اشفقت على نفسي كثيرا في حينها وانا استمع اليه, فكثيرا مانسمع للآخرين بقصد تلافي ماهم فيه, لاشفقةً عليهم. آه, كم هي خائبة ذواتنا!.

وانا عائدٌ منه تساءلت في جهري, هل من الممكن ان لاتكفل الحكومة علاج رعاياها؟, هم يتحملون بالواجبات, أليس في مقابل ذلك حقوق يفترضها لهم القانون؟, واذا كانت لاتستطيع علاجهم في مؤسساتها, ألا تستطيع ارسالهم للعلاج في الخارج على نفقتها؟, انها المحتكر الوحيد لفعل الدولة, وليس من مشكلة صديقي او غيره ان مستشفياتنا فاشلة, عليها ان تفعل ذلك وإلا كانت حكومة عاهرة بامتياز.

اخر مرة رأيته فيها, قال لي:

– سأمشي ياصديقي يوما.

 قلتُ له

– ستفعل!.

أحدث المقالات