18 ديسمبر، 2024 7:21 م

مناقشتي لما يشاع عن العلمانية والعلمانيين ١/٢

مناقشتي لما يشاع عن العلمانية والعلمانيين ١/٢

صديق من المشاركين في التمهيد لتأسيس «تجمع دولة المواطنة» ككيان سياسي عراقي، علماني ديمقراطي ليبرالي، يعتمد المواطنة والعدالة الاجتماعية، نشر مشكورا منشورا يلخص فيه ما يشاع عن العلمانية والعلمانيين، رأيت أن أتناوله بالمناقشة، بحسب ترتيب النقاط التي أوردها، وكان قد قدم لذلك بقوله: «بعض ما يشاع عن العلمانية، وكيفية تخويف الناس منها، نورد هنا بعض النقاط التي يتم تداولها [مما يعتبرونه] نهج العلمانية وطرق دعوتها»:

1. العلماني: تجد البعض يؤمن بوجود إله، لكنه يعتقد بعدم وجود علاقة بين الدين وبين حياة الإنسان (فكر بوذي)، كما يعتقد بأن الحياة تقوم على أساس العلم التجريبي المطلق وهذا (فكر ماركسي).

مناقشتي:

وجود علمانيين يؤمنون بالإله، بحد ذاته ينفي إذن التهمة الموجهة إلى العلمانية بأنها كفر وإلحاد، فالعلمانية بمعناها السياسي تستوعب المؤمن والملحد واللاأدي، وطريقة إيمان كل فرد علماني مؤمن، هو شأن شخصي لا علاقة له بالسياسة، ووجود علمانيين يفكرون بهذه الطريقة صحيح، ولكن ذلك لا يمكن تعميمه على كل العلمانيين. ولا علاقة بذلك بالبوذية حصرا، بل هي رؤية فلسفية تتفاوت في التفاصيل بين فلسفة وأخرى، كما اعتماد العلم التجريبي، فهو ما يعتمده حتى المؤمنون بالدين، فيما يتعلق بقضايا عالم (الشهادة) حسب المصطلح الديني، ويقتصر إيمانهم بما يسمى بعالم (الغيب)، أي عالم ما وراء الطبيعة، على شؤونهم الدينية من أحكام وعبادات ولاهوت. ثم ماذا لو كانت البوذية معتنقة من قبل شريحة من الشعب العراقي، فهل يجب منعها يا ترى؟

2. والعلماني: تجده يعتبر القيم الروحية التي تنادي بها الأديان والقيم الأخلاقية بأنواعها هي قيم سلبية يجب أن يتم تطويرها أو إلغائها وهذا (فكر ماركسي).

مناقشتي:

وهذا أيضا لا يقبل الإطلاق والتعميم، فمن العلمانيين من هم مؤمنون بالله، سواء كان إيمانا دينيا، ولو حسب فهمهم، أو إيمانا فلسفيا لادينيا، وهم يؤمنون بقيم روحية. أما الأخلاق فهي قيم إنسانية لا علاقة لها بالدين، وحتى هناك فريق من لاهوتيي الدين يقولون بالحسن والقبح العقليين، ويعنون هنا العقل الأخلاقي أو العملي، وليس العقل الفلسفي، ويعنون بذلك عدم وجوب الاستحسان الأخلاقي وعكسه وفق معايير الدين حصرا، بل هو أمر مستقل عن الدين. ثم هناك قول حتى لمفكرين من رجال الدين أنفسهم، مثل مرتضى مطهري، وأتفق معه في ذلك كليا، يفرقون بين القيمة الأخلاقية والسلوك الأخلاقي، فالقيمة الأخلاقية كالعدل والصدق وغيرهما مطلقة في ذاتها، بينما السلوك الأخلاقي نسبي، وهكذا هو كل شيء في عالم الإنسان نسبي. وهذه الرؤية لا تقتصر على الفلسفة الماركسية.

3. والعلماني: تجده يطالب بالإباحية كالسفور، والاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة والخاصة (أي الخلوة) ويحبذ عدم الترابط الأسري (دعوة ماسونية).

مناقشتي:

قبل كل شيء لا تلازم مطلقا بين السفور والإباحية، ثم نجد هنا خلطا بين العلمانية والليبرالية، فكل ليبرالي علماني، ولكن ليس كل علماني ليبراليا، وحتى الليبرالية تتفاوت في درجاتها، فالليبرالي لا يجب أن يكون إباحيا، بل من الليبراليين من يمقت الإباحية، ولا يستسيغها، لكنه يرفض ملاحقة الإباحيين وقمعهم، إذا لم يتعرضوا للصالح العام، ثم هناك لكل مجتمع ذوق اجتماعي، لا يمكن للعقلاء الاصطدام به، فحتى في الغرب، لا يمكن لإنسان أن يخرج عاريا إلى الشارع، أو يمارس الجنس في الأماكن العامة. ثم العلماني حتى لو كان لادينيا أو ملحدا أو مؤمنا بدين لا يوجب الحجاب، بل حتى لو كان يمقت ظاهرة الحجاب، فهو كديمقراطي يؤمن بالحريات الشخصية، لا يسمح لنفسه أن يمنع الحجاب أو يدعو إلى منعه، كما إن من السافرات من هن مؤمنات بالدين، بل وملتزمات إلى حد ما، لكن دون اقتناعهن بوجوب الحجاب، وتعميم صفة الماسونية على من يفكر بهذه الطريقة هو تعميم وإطلاق يخالف الواقع، ومعظم السافرات نساء محترمات، ولا تلازم بين السفور والممارسات المرفوضة اجتماعيا.

4. والعلماني: تجده يطالب بعدم تدخل الدين في الأمور السياسية، وإنه يجب تطبيق الشرائع والأنظمة الوضعية كالقانون الفرنسي في الحكم. وإن الدين للعبادة فقط، دون تدخل في شؤون الخلق وتنظيمها، كما أراد الله سبحانه وتعالى.

مناقشتي:

بل هذه أيضا رؤية غير قليل من رجال الدين، من السنة والشيعة على حد سواء، بل وحتى المرجع الديني الأعلى للشيعة في النجف، الذي يتمتع بأوسع مساحة من المقلدين في الأوساط الشيعية في العالم، وليس في العراق حصرا، عبر عن ذلك بوضوح لا لبس فيه في خطبة الجمعة بتاريخ ٢٩/١١/٢٠١٩، عندما قال ممثله في تلك الخطبة: «إن المرجعية الدينية ستبقى سندا للشعب العراقي الكريم، وليس لها إلا النصح والإرشاد، إلا ما ترى إنه في مصلحة الشعب، ويبقى للشعب أن يختار ما يرتئي أنه الأصلح لحاضره ومستقبله، بلا وصاية لأحد عليه». فهل يختلف هذا من حيث المضمون عن قول العلمانيين؟

5. والعلماني: تجده يردد دائماً بأن الإنسان هو الذي ينبغي أن يستشار في الأمور الدنيوية كلها، وليس رجال الدين، ويطالب بأن يكون العقل البشري صاحب القرار وليس الدين.

مناقشتي:

بل هو قول كثير من رجال الدين العقلاء، الذين يرون الرجوع في الأمور الحياتية إلى أصحاب الاختصاص، وهذا يشمل أمور السياسة وإدارة الدولة، لأن معظمها مما يعتبرونه من الموضوعات الخارجية، التي هي من اختصاص (المكلف)، أي الإنسان البالغ والراشد المؤمن بالدين، وليست من اختصاص الفقيه. ثم إن أكثر رجال الدين لا دراية لهم بأمور المجتمع والسياسة.