ناقش مجلس الوزراء في مطلع شهر كانون أول الماضي مسألة ميناء مبارك الذي توشك الكويت أن تنجز المرحلة الأولى من بنائه , وقد تغيب وزير النقل السيد هادي العامري عن الجلسة بسبب سفره الى خارج العراق , وحضر بالنيابة عنه السيد بنكين ريكاني وكيل وزارة النقل ؛ وقد نقل لي صديق قريب من أجواء الحكومة مجمل النقاش الذي دار كما يلي:
السيد نوري المالكي : لازال هذا الموضوع ينذر بتفجر مشكلة كبيرة بيننا وبين الكويت , و تقرير لجنة ثامر الغضبان بقي ضمن إطار محدود ولم يناقش بتوسع في مجلس النواب والرأي العام العراقي متوجس منه , والكويتيون مصرون على المضي بمشروعهم , وقد يحتاج حل هذه المشكلة الى تدخل ووساطة أميركا .
السيد بنكين ريكاني : هذا المشروع يهدد العراق أمنيا واقتصاديا , فلن يتوفر للموانيء العراقية مساحات تكفي لمناورات السفن الضخمة , وسيخنق ميناء الفاو وسيتحول ميناء أم قصر الى بركة ضحلة , ولن يتمكن العراق من بناء قوات بحرية ذات قيمة لو فكر بذلك يوما ما , والأخطر من ذلك أن الشركات الكبرى بدأت تصرّ على شحن معداتها الى العراق عبر ميناء مبارك مما يهدد موانيء العراق بالضمور , كذلك سوف يتأثر صغار الصيادين العراقيين ويقل مورد رزقهم , وأنا أقترح إلزام الشركات وبالذات العاملة في مجال استخراج النفط , على استخدام الموانيء العراقية في عملياتها .
السيد حسين الشهرستاني : لا يمكننا إجبار الشركات على استخدام موانيء العراق , فالعقود المبرمة معها لا تنص على ذلك فضلا عن أنه من حقها اختيار الموانيء الأرخص تكلفة والأعلى كفاءة .
السيد هوشيار زيباري : تقرير اللجنة الفنية العراقية موجود لدينا في مجلس الوزراء , وهو يبدد مخاوف العراق من ميناء مبارك وهي مخاوف غير مبررة , فضلا عن أن ميناء مبارك هو مشروع كويتي يقام على أرض كويتية .
السيد علي الدباغ : الشركات العاملة في ميناء مبارك جميعها أجنبية وهي تبني أرصفة ذات مواصفات عالمية , وهي قادرة على تحميل السفن وتفريغها بكفاءة عالية من حيث اختصار الوقت والتقنية المستخدمة .
السيد بنكين ريكاني : ليس معقولا أن تفرض الشركات الأجنبية إرادتها على الحكومة العراقية وتتسبب بالضرر لاقتصاد البلد , كذلك فإن استخدام الموانيء العراقية من قبل الشركات المستفيدة من العراق لا يتعلق فقط بالمصلحة الاقتصادية وإنما هو قبل كل شيء مسألة سيادة وطنية ولذلك لا بد من العمل باتجاهين , محاولة إقناع الحكومة الكويتية أن تتخلى عن استكمال المرحلتين الأخيرتين من ميناء مبارك , وتأهيل الموانيء العراقية وإعطاء الأولوية لبناء ميناء الفاو الكبير الذي لا يعرف أحد سرّ تجميد العمل فيه .
السيد علي الدباغ : بصراحة أنا أعتقد أن الشركات الأجنبية العاملة في تشغيل الأرصفة أفضل من شركة الموانيء العراقية ومن الزاوية الاقتصادية البحتة فإن فائدة العراق من ميناء مبارك ستكون مساوية لما يجنيه من موانئه إن لم تكن أعلى .
السيد بنكين ريكاني : لا أرى كيف سيستفيد العراق من التخلي عن موانئه واستخدام ميناء دولة مجاورة , إن وزارة النقل تختلف مع هذا الرأي وتلحّ على البدء بإقامة ميناء الفاو الكبير وتشغيله بشروط منافسة لقطع الطريق على الكويت لاستكمال المراحل الباقية من ميناء مبارك .
السيد علي الدباغ : لا أظن أن العراق قادر على خوض منافسة اقتصادية مع الكويت , وحسب معلوماتي فإن الكويتيين مصرين على إنجاز مينائهم دون الالتفات الى اعتراض العراق أو سواه من الدول , ومن الخير للعراق أن يتماشى مع هذا الأمر الواقع والاستفادة منه بدلا من خوض معركة بلا جدوى , ثم أن تقرير اللجنة الفنية العراقية التي زارت الكويت واطلعت على مشروع ميناء مبارك على الأرض وتحت الماء , لم يتطرق الى شيء مما يتفضل به السيد الوكيل .
السيد بنكين ريكاني : تقرير السيد ثامر الغضبان لم يكن واضحاً ولا حاسماً في خلاصته , وهو لا يؤيد أيضا ما ذهب اليه السيد الدباغ من وجود مصلحة للعراق في ميناء مبارك , والمسألة ليست فنية أو اقتصادية فقط , وإنما تتعلق بمصالح العراق العليا وبحقّه في الاستثمار الكامل لموانئه و بسيادته على مياهه الاقليمية في شط العرب .
السيد نوري المالكي : أنا لدي دعوة لزيارة الكويت وقبل تلبيتها سأعمل على إعداد ملف شامل بملف ميناء مبارك يتناول كل أوجه القضية , وعلى ضوئه سوف نحدد رؤيتنا وموقفنا منه , ولكننا فهمنا أن الكويتيين قد تخلوا عن استكمال المرحلة الرابعة من الميناء وألغوا مشروعاً لإنشاء ستين رصيفاُ للشحن والتفريغ .
………………………………
………………………………
لم يكن ذلك الحديث محضر اجتماع لمجلس الوزراء , وإنما نبذة عن مسألة محددة ناقشها المجلس ونقلها لي الصديق بأسلوب مرسل وباللهجة العامية , وقد آثرت إعادة صياغتها على شكل حوار لأني ظننت أنه أكثر سهولة في الكتابة و أكثر سلاسة في القراءة , وقد حرصت أن أطلع ذلك الصديق على نص الحديث قبل إرساله للنشر ضماناً لعدم تجاوز معاني الحوار الذي سمعته منه كقصة مشوّقة .
ولقد استوقفني الموقف المسؤول لوكيل وزارة النقل , وهو كردي من مدينة السليمانية , فقد كان أكثر وطنية وحرصاً على مصالح العراق من متأسلمي النظام العراقي ومن عصابات البرزاني والطالباني , لقد فرّطوا جميعاً بالأمانة التي يُفترض بمسؤولي البلد صيانتها حتى بأرواحهم , فالسيد الشهرستاني ليس مستعداً لتعكير مزاج الشركات النفطية الأجنبية بإرغامها على استخدام موانيء البلد الذي تنزح من ثروته مليارات الدولارات , والسيد زيباري أضاف لمواهبه الدبلوماسية موهبة الفهم بالشؤون الهندسية والملاحية فمنح براءة للمشروع الإجرامي الكويتي , أما السيد علي الدباغ فهو حكاية أخرى , فهذا الطاريء على المشهد السياسي العراقي بلقب علمي مشكوك بأصالته , وبتخصص طريف – المرجعية الدينية – له مصلحة مباشرة في طيّ صفحة ميناء الفاو الكبير وإنشاء ميناء مبارك بمراحله الأربع , فقد عقد السيد الدباغ وعراقي مقيم في لبنان يدعى جواد شاكر اتفاقاً مع الشركة المشغلة لميناء مبارك ينالان بموجبه حصة مئوية – قيل أنها عشرون بالمئة – عن كل شحنة تخرج من ذلك الميناء باتجاه العراق وذلك مقابل إقناع الحكومة العراقية واللجان المتخصصة في مجلس النواب بوقف معارضتهم لميناء مبارك ؛ ولقد كان طبيعياً ألا يجد السيد الدباغ غضاضة في التفريط بمصالح العراق العليا لدرجة تقرب من الخيانة العظمى , فالتفريط بما تعارف الناس على صيانته بالمهج ومقل العين – كفلذات الأكباد في سن الطفولة – هو جزء من شخصيته وقيمه , وهو والمطلعين على ماضيه الشخصي المشين في دولة الإمارات العربية قبل العام 2003 يعرفون ما أتحدث عنه ؛ وقد روي مؤخراً عن السيدة قرينته وهي لبنانية مقيمة في دبيّ , أنها قلقة على سلامته وهي تلح عليه منذ فترة طويلة ليترك العراق ويستقرّ ثانية في الإمارات أو في لبنان , ولكنه – بحسب قولها – كان يردّ عليها أن فرصة لم تكن على البال قد سنحت له في العراق وهي لن تتكرر , وأنه ينوي استغلالها الى آخر مدى ممكن! .