9 أبريل، 2024 9:10 م
Search
Close this search box.

ممالك النمل

Facebook
Twitter
LinkedIn

كنت أشاهد صباح أمس ، برنامجا على قناة (السومرية) ، أدارته الإعلامية (زهراء غندور) ، وهي تكشف لنا عالما سفليا مخيفا ، عن مجموعة من العوائل التي تعيش على النفايات ، وقد أظهرت لنا لقطات محزنة وصادمة عن أطفال أبعد ما يكونون عن أية حضارة بشرية ، وقد غطتهم الأوساخ إلى درجة مسحت معالمهم فأحالت سحنتهم إلى لون الصدأ بعد أن أحرقتهم الشمس ، بملابس ممزقة لا تكاد تستر أجسادهم وهم حفاة ، قد أكلت الأرض من أقدامهم ما أكلت ، شعورهم كالحطب المتيبس ، حفرت الدموع والمخاط أخاديدا على وجوههم التي لم تعرف الغسل ، سكنت الحيرة والذهول وذل الحاجة محياهم ، وقد إحتدم كل ذباب الأرض على جفونهم وجروحهم ، وشفاههم المتشققة ، يعلم الله منذ متى قد إستقبلت هذه الشفاه آخرَ لقمة طعام ! ، كنت أتناول طعام الإفطار ، فغصصت بلقمتي وإبتلعتها بصعوبة ، ولم أستطع إكمال فطاري .

ذووهم أسوأ حالا ، وهم يقطنون جزرا من الصفيح والطين والخِرَق ، وسط بحار من الأزبال لا بداية لها ولا نهاية ، شكاواهم عن شظف العيش والعوز والحاجة والمعاناة اليومية تفطر الفؤاد ، لكني لا أعفيهم من أنانيتهم لأنهم أنجبوا هؤلاء الأطفال فقط لتلبية غرائزهم ، فهم من يأكل الحصرم والصغار يضرسون ، مع علمهم أن ذراريهم سيعانون أكثر منهم ، في بلد يسير نحوالهاوية والظلام الدامس حثيثا ! .

ثقوب النمل أفضل حالا بكثير ، فعلى الأقل أن النمل خلقه الله على هذه الشاكلة وعلى قدر وعيها ، لكن الجحور التي يعيش بها هؤلاء المساكين ، تتمرد منها حتى الكلاب السائبة أجلّكم الله ، والجميع منخرط في (نبش) مقالع الأزبال أطفالا وكبارا ، لفرز المواد البلاستيكية والزجاج والمعادن ، ونحن نعلم ما تحتويه هذه النفايات من مواد كيمياوية سامة ، أو متفجرة ، او جارحة ، تمرّ عليها أكف صغيرة غضة ، لن يُتَح لها أن تحمل القلم وتتعلم ، وسيصحون يوما على واقعهم المرير ، ولكم التصور كيف سينتهي بهم المطاف !.

هل شاهدتَ عزيزي القارئ وضع وظروف النساء العاملات في معامل الطابوق الممتدة على طول الطرق الخارجية ، خصوصا الطرق من بغداد إلى أقصى بلدة في الجنوب ؟ ، إنها أسوأ بكثير من وضع المساجين المحكومين بالأشغال الشاقة ، لكن الفرق إن تلك الأشغال كانت بإختيارهن ، بعد أن تقطّعت بهن سبل العيش ، لأن ذنبهن إنهن ولِدنَ في سجن أسمه العراق ، مصنع الدكتاتوريات والإستبداد والسّراق ، تقاطرَ على إقتسام السلطة فيه ، كل مجرم ممن لا يمتلك ذرة من الضمير أو الإنسانية ، إنها وضعية مزرية وهنّ يحسدنَ عبيد القرون السحيقة ، بسبب العمل الشاق الذي لا يقوى عليه أشد الرجال ، فهن يقمن بنقل الطابوق الساخن من (الكورة) بخِرَقِ عبائاتهن حتى ظهور الحمير ، ولم أجد أشد بؤسا من بيئة عملهن حيث دخان المداخن التي جعلت من أنوفهن سوداء بسبب إستنشاقهن لدخان النفط الأسود والغبار ، لم أجد هذا حتى في الدول الأشد فقرا في العالم ، وكأنهن لسن َ في العراق البلد الأغنى في العالم ، وقد حوّلت الطبقة السياسية شعبه إلى عبيد ، بل أسوأ ، فالعبد قد ضمن لقمة تكفيه ، لكن ليس الأمر كذلك بالنسبة لعبيدنا الذي تتصيده السلطة في كل شاردة وواردة ، وأهملته في كل النواحي وأهدرت كرامته ، ودمّرت ما تبقى من قوة شراءه بتخفيض عملته المحلية ، وترفض إعادة قيمة عملته إلى سابق عهدها رغم زوال كل الأعذار الواهية التي تتبجح بها السلطة كمبرر لسياسة التجويع ، أحد أساليب معاقبته ، بسبب خروجه مرات عديدة بوجه تلك الطبقة .

قارن عزيزي القارئ بين هذه الصور الرمادية ، وبين قصور وقلاع الطبقة السياسية التي أحاطوها بأسوار تناطح السماء عن عوام الناس ، والتي لا يوجد لها مثيلا ، لا في أيام كسرى وقيصر وكل ألأكاسرة المستبدين والسلاطين على مر التاريخ ، وربما يحتل (يزيد) الذي يدّعون معاداته ذيل القائمة ، قصور لم يكن ليحلموا بها ، صارت موئلا في البذخ الجنوني والصفقات الشيطانية والمؤامرات ، والإتجار في كل ما هو مقدّس ، والنهب الأسطوري الذي تعجّب منه كل سكان الأرض ، فهبطت سمعة البلد تاريخيا إلى ما دون الحضيض أمام خلق الله !.

البعض منهم تزوّجوا بفتيات أصغر من بناتهم ، وقد بذلوا لأجل ذلك الغالي والرخيص لأجل عمليات التجميل وللعناية بقوامهن ، بل أن معظمهم بدا وكأن الزمن الأغبر قد عاد بهم إلى الوراء عقودا ، لكن الأنوثة المكافحة عندنا تُسحَق تحت ركام المآسي وثقل الحياة والهموم .

هل تجرأ أحد هؤلاء ممن يتشبه بالحسين وعلي إبن أبي طالب (وهما منهم براء) ، ففعلوا ما لم يجرأ عليه (بسر إبن أرطأة) و(آل المعيط) ، أن يترك زُخرف قصره العاجي وينزل إلى حيث جحور المجتمع السفلي المظلم وهم مَن أوجدوه ، وحتى لو فعلوا ذلك ، فسوف لن تستيقظ الضمائر ، لأننا نعلم أنها إنقرضت منذ عصر الديناصورات ، فكل الذي سيفعلونه ، هو مشهد تمثيلي إستعراضي سخيف ، بأن يتوسطون الجموع الغاضبة المغلوبة ويجلسون القرفصاء في إشارة كاذبة للتواضع ، جموع تحيط بها الذئاب من كل صوب ، وأقصى ما يفعلونه (خلع ستراتهم) ويتظاهرون بالإستماع لشكاواهم التي تدخل من الأذن اليمنى لتخرج من اليسرى ! ، وبدلا من تنفيذ وعودهم على الأقل بحمايتهم ، يتركونهم فريسة للذئاب !.

منذ نصف قرن ، قال (مظفر النواب) في رائعته (وتريات ليلية) ، وما اشبه اليوم بالبارحة ! :

وطني أنقذني ، رائحة الجوع البشري مخيفه

أنقذني من مدن سرقت فرحي

من مدن يصبح فيها الناس

مداخن للخوف وللزبل مخيفه

من مدن ، ترقد في الماء الآسن

كالجاموس الوطني

وتجتر الجيفه

في (العُلب الليلة) يبكون عليك

ويستكمل بعض (الثوار) رجولتهم

ويهزّون على الطبلة والبوق

أولئك أعدائك يا وطني !..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب