كنت أشاهد صباح أمس ، برنامجا على قناة (السومرية) ، أدارته الإعلامية (زهراء غندور) ، وهي تكشف لنا عالما سفليا مخيفا ، عن مجموعة من العوائل التي تعيش على النفايات ، وقد أظهرت لنا لقطات محزنة وصادمة عن أطفال أبعد ما يكونون عن أية حضارة بشرية ، وقد غطتهم الأوساخ إلى درجة مسحت معالمهم فأحالت سحنتهم إلى لون الصدأ بعد أن أحرقتهم الشمس ، بملابس ممزقة لا تكاد تستر أجسادهم وهم حفاة ، قد أكلت الأرض من أقدامهم ما أكلت ، شعورهم كالحطب المتيبس ، حفرت الدموع والمخاط أخاديدا على وجوههم التي لم تعرف الغسل ، سكنت الحيرة والذهول وذل الحاجة محياهم ، وقد إحتدم كل ذباب الأرض على جفونهم وجروحهم ، وشفاههم المتشققة ، يعلم الله منذ متى قد إستقبلت هذه الشفاه آخرَ لقمة طعام ! ، كنت أتناول طعام الإفطار ، فغصصت بلقمتي وإبتلعتها بصعوبة ، ولم أستطع إكمال فطاري .
ذووهم أسوأ حالا ، وهم يقطنون جزرا من الصفيح والطين والخِرَق ، وسط بحار من الأزبال لا بداية لها ولا نهاية ، شكاواهم عن شظف العيش والعوز والحاجة والمعاناة اليومية تفطر الفؤاد ، لكني لا أعفيهم من أنانيتهم لأنهم أنجبوا هؤلاء الأطفال فقط لتلبية غرائزهم ، فهم من يأكل الحصرم والصغار يضرسون ، مع علمهم أن ذراريهم سيعانون أكثر منهم ، في بلد يسير نحوالهاوية والظلام الدامس حثيثا ! .
ثقوب النمل أفضل حالا بكثير ، فعلى الأقل أن النمل خلقه الله على هذه الشاكلة وعلى قدر وعيها ، لكن الجحور التي يعيش بها هؤلاء المساكين ، تتمرد منها حتى الكلاب السائبة أجلّكم الله ، والجميع منخرط في (نبش) مقالع الأزبال أطفالا وكبارا ، لفرز المواد البلاستيكية والزجاج والمعادن ، ونحن نعلم ما تحتويه هذه النفايات من مواد كيمياوية سامة ، أو متفجرة ، او جارحة ، تمرّ عليها أكف صغيرة غضة ، لن يُتَح لها أن تحمل القلم وتتعلم ، وسيصحون يوما على واقعهم المرير ، ولكم التصور كيف سينتهي بهم المطاف !.
هل شاهدتَ عزيزي القارئ وضع وظروف النساء العاملات في معامل الطابوق الممتدة على طول الطرق الخارجية ، خصوصا الطرق من بغداد إلى أقصى بلدة في الجنوب ؟ ، إنها أسوأ بكثير من وضع المساجين المحكومين بالأشغال الشاقة ، لكن الفرق إن تلك الأشغال كانت بإختيارهن ، بعد أن تقطّعت بهن سبل العيش ، لأن ذنبهن إنهن ولِدنَ في سجن أسمه العراق ، مصنع الدكتاتوريات والإستبداد والسّراق ، تقاطرَ على إقتسام السلطة فيه ، كل مجرم ممن لا يمتلك ذرة من الضمير أو الإنسانية ، إنها وضعية مزرية وهنّ يحسدنَ عبيد القرون السحيقة ، بسبب العمل الشاق الذي لا يقوى عليه أشد الرجال ، فهن يقمن بنقل الطابوق الساخن من (الكورة) بخِرَقِ عبائاتهن حتى ظهور الحمير ، ولم أجد أشد بؤسا من بيئة عملهن حيث دخان المداخن التي جعلت من أنوفهن سوداء بسبب إستنشاقهن لدخان النفط الأسود والغبار ، لم أجد هذا حتى في الدول الأشد فقرا في العالم ، وكأنهن لسن َ في العراق البلد الأغنى في العالم ، وقد حوّلت الطبقة السياسية شعبه إلى عبيد ، بل أسوأ ، فالعبد قد ضمن لقمة تكفيه ، لكن ليس الأمر كذلك بالنسبة لعبيدنا الذي تتصيده السلطة في كل شاردة وواردة ، وأهملته في كل النواحي وأهدرت كرامته ، ودمّرت ما تبقى من قوة شراءه بتخفيض عملته المحلية ، وترفض إعادة قيمة عملته إلى سابق عهدها رغم زوال كل الأعذار الواهية التي تتبجح بها السلطة كمبرر لسياسة التجويع ، أحد أساليب معاقبته ، بسبب خروجه مرات عديدة بوجه تلك الطبقة .
قارن عزيزي القارئ بين هذه الصور الرمادية ، وبين قصور وقلاع الطبقة السياسية التي أحاطوها بأسوار تناطح السماء عن عوام الناس ، والتي لا يوجد لها مثيلا ، لا في أيام كسرى وقيصر وكل ألأكاسرة المستبدين والسلاطين على مر التاريخ ، وربما يحتل (يزيد) الذي يدّعون معاداته ذيل القائمة ، قصور لم يكن ليحلموا بها ، صارت موئلا في البذخ الجنوني والصفقات الشيطانية والمؤامرات ، والإتجار في كل ما هو مقدّس ، والنهب الأسطوري الذي تعجّب منه كل سكان الأرض ، فهبطت سمعة البلد تاريخيا إلى ما دون الحضيض أمام خلق الله !.
البعض منهم تزوّجوا بفتيات أصغر من بناتهم ، وقد بذلوا لأجل ذلك الغالي والرخيص لأجل عمليات التجميل وللعناية بقوامهن ، بل أن معظمهم بدا وكأن الزمن الأغبر قد عاد بهم إلى الوراء عقودا ، لكن الأنوثة المكافحة عندنا تُسحَق تحت ركام المآسي وثقل الحياة والهموم .
هل تجرأ أحد هؤلاء ممن يتشبه بالحسين وعلي إبن أبي طالب (وهما منهم براء) ، ففعلوا ما لم يجرأ عليه (بسر إبن أرطأة) و(آل المعيط) ، أن يترك زُخرف قصره العاجي وينزل إلى حيث جحور المجتمع السفلي المظلم وهم مَن أوجدوه ، وحتى لو فعلوا ذلك ، فسوف لن تستيقظ الضمائر ، لأننا نعلم أنها إنقرضت منذ عصر الديناصورات ، فكل الذي سيفعلونه ، هو مشهد تمثيلي إستعراضي سخيف ، بأن يتوسطون الجموع الغاضبة المغلوبة ويجلسون القرفصاء في إشارة كاذبة للتواضع ، جموع تحيط بها الذئاب من كل صوب ، وأقصى ما يفعلونه (خلع ستراتهم) ويتظاهرون بالإستماع لشكاواهم التي تدخل من الأذن اليمنى لتخرج من اليسرى ! ، وبدلا من تنفيذ وعودهم على الأقل بحمايتهم ، يتركونهم فريسة للذئاب !.
منذ نصف قرن ، قال (مظفر النواب) في رائعته (وتريات ليلية) ، وما اشبه اليوم بالبارحة ! :
وطني أنقذني ، رائحة الجوع البشري مخيفه
أنقذني من مدن سرقت فرحي
من مدن يصبح فيها الناس
مداخن للخوف وللزبل مخيفه
من مدن ، ترقد في الماء الآسن
كالجاموس الوطني
وتجتر الجيفه
في (العُلب الليلة) يبكون عليك
ويستكمل بعض (الثوار) رجولتهم
ويهزّون على الطبلة والبوق
أولئك أعدائك يا وطني !..