18 ديسمبر، 2024 8:44 م

ممارسات سياسيّة بين فلسفة نيتشة ونظريّة داروين

ممارسات سياسيّة بين فلسفة نيتشة ونظريّة داروين

عندما لاحت بوادر الأزمة الإقتصاديّة العالميّة، ثمّ تبيّن لاحقا أنها ستكون خانقة و شرسة بالنسبة للفقراء كما الأغنياء، تردّد في الدوائر المتنفّذة والفضاءات المغلقة، أن بعض “المستكرشين”؛ من رجال الأعمال و الصناعييين والسياسيين الذين أتت بهم رؤوس الأموال الى سدة الحكم ، يرون-  ورأيهم لا يفسد في الود قضية- أن الحل الأمثل للأزمة المستشرية في كافة أرجاء المعمورة-وإن بدرجات متفاوتة- إنما هو القضاء الساحق على الفقراء بدل القضاء التدريجي على الفقر كما هو منشود بالنسبة للسواد الأعظم من الجماهير الشعبية  الكادحة و كذا من السياسيين والنخب الفكرية ذات التوجه الإشتراكي الإنساني و المنبثقة من رحم الشعوب المكافحة لقاء لقمة العيش المرة مرارة العلقم وأكثر أحيانا.
وهذا المنطق، بداهة وبداية، علاوة على أنه غير علمي بالمرّة، حيث لا القضاء على الفقر ولا القضاء على  الفقراء يسهم فعليا و بنجاعة في حل الأزمة، فإنه لا يختلف في شيء عن محور وروح وغاية فكر وفلسفة القوة التي رسم ملامحها  وأسس لها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة الذي أسهم ولا شك، بنصيب وافر في توجيه الفكر الأوروبي الحديث -رغم إضطراباته االعقلية الواضحة- فهو الفيلسوف المتأثر حتى النخاع بالنظرية الداروينية، المدفوع بقوة بنزعة إستعلائية، إستأصالية و تطهيريّة، الداعي  بشدة إلى الرقي بالإنسان، بغية الإعلاء من شأنه وجعله مسؤولا عن مصيره وإنقاذ نفسه، إلى حين الوصول به إلى الكمال الذي يمثله الإنسان الأعلى أو الخارق أي )السوبرمان(الذي ”صنعه” نيتشة بعد موت الإلاه، وكان يراه ألمانيا ينبثق من بين الأقوياء بعد القضاء نهائيا على الضعفاء  ونراه -راهنا- أوروبيا وأمريكيا. وهو إنسان قوي لكنه فوضوي، يعتبره نيتشة فوق كل القيم والأخلاق- التي  نظر إليها هذا الفيلسوف نظرة شك في أنها الدافع الموجه لحركة التاريخ ولكل فعل إنساني- وهو أيضا فوق كل القوانين والمؤسسات، وفوق الجميع لأن نيتشة يراه بديلا عن الله، وعند انبثاقه تنتهي حركة التاريخ وينتهي الصراع وكل التناقضات والاصطدامات بين الطبقات، أي بين الأقوياء والضعفاء أو بين السادة والعبيد بتعبير نيتشة، باعتبار أن الحسم يكون حتما للأقوياء بما يجلب- بمعنى من المعاني- الخير للجميع. هذا، إذا ما وقع تخطي المفهوم التقليدي السائد للخير والشر إلى ما أبعد من حدودهما المرسومة «Au-delà du bien et du mal » كما عنون نيتشة بذلك أحد  أهم كتبه.
ولا يتم ذلك إلا وفق نظرية التطور الداروينية للنشوء والارتقاء التي تعتمد على قوانين التطور التي تحكمها قاعدة “البقاء للأقوى” لأنه “الأصلح”.  وقد افاض  داروين في شرحها في كتابه ” عن أصل الأنواع” De   l’origine des espèces” الذي كان خلاصة دورته حول  العالم على سفينة Beagle – بما يعني أن لا مكان للضعفاء وفق الإصطفاء أو الإنتخاب الطبيعي للكائنات الحية.  وهي  نظرية بيولوجية، بالأساس، تقوم على أن الأجناس في صراع دائم للبقاء على قيد الحياة ، ونتيجة  لهذا الصراع الرهيب لا يبقى غير الأنسب لظروف البيئئة الجغرافية التي يعيش فيها. إلا أن هذه النظرية أخذت فيما بعد أشكالا عديدة أشهرها الداروينية الإجتماعية كما بينها المؤرخ الامريكي ريتشارد هوفستادر في مؤلفه “الداروينية الاجتماعية في الفكر الأمريكي” ومن قبله روبرت سبنسر في مؤلفه” التقدم: قوانينه وأسبابه” وهي نظرية تذهب إلى اعتبار الارتقاء الناتج عن الانتخاب الطبيعي ليس فقط ظاهرة بيولوجية بل وكذلك ظاهرة إجتماعية  تفسر التغييرات الحادثة في المجتمعات البشرية.
ولبلوغ هذه الغاية إتجه نيتشة نحو الانعتاق من كل القيود غير مستثنيا منها إلا إرادة القوة التي عشقها بوله، كعشقه للإلاه” ديونوزوس” عاشق القوة. وهو ما جعله  يمجدها في جميع أشكالها حتى فيما لو كانت هذه القوة لا تعرف الرحمة كما في القضية التي نحن بصددها. فنيتشة يرى- ورأيه يحتمل جانبا كبيرا من الصحة – أن القوة هي المبدأ الأول والأخير للحياة.ومن نتائج هذا المبدأ أن الإنسان المتميز الغلاب هو الأحق بقيادة الجماعة، وأن الإستبداد المطلق الذي ليس له قيود ولا حدود إضافة إلى تعذيب الكثرة الضعيفة، ضروري لإسعاد القلة القوية التي تستمتع و تنتشي لا بل وتزهو بهذا التعذيب وبالإستهانة بالغير، وأن خير ما يفعله الفرد أو الجماعة إنما هو استعمال القوة من مثل شن الحروب لإبادة الضعفاء ليس فقط لتحقيق طموحات القلة، فهذا من تحصيل الحاصل، بل وكذلك- وهذا الأهم- لضمان ديمومة نفوذ هذه القلة وسيطرتها وفق صيرورة تاريخية حتمية. بما يتفق مع ما ذكره داروين في الفصل السادس من مؤلفه” أصل الإنسان” من أن»  الأعراق البشرية المتحضرة سوف تقوم على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم «.
إنطلاقا من هذا الفكر النيتشوي المهوس بالقوة حد الجنون، فطبيعي جدا أن يدعو البعض من مصاصي دماء الضعفاء، المشحونة عقولهم شحنا بهكذا فكر، إلى القضاء على الفقراء كحل جذري للأزمة الإقتصادية التي نعيشها اليوم والتي أسهم في ظهورها- حصرا- الأقوياء، ولا ناقة فيها ولا جمل للفقراء، لا بل هم ضحاياها الأساسيين. ولكن أليس بديهيا، أن السوبرمان لا يسأل عن شيء باعتباره بديلا عن الله، ثم باعتبار أن كل شيء جائز، بعد “موت الإلاه” برمزيته الأخلاقية، حسب رؤية نيتشة؟! حيث يصبح خالق القيم إنما هو الإنسان وليست الأديان التي يعتبرها نيتشة أسطورية، ذات قيم وهمية و تعميمية بما يعني الإتجاه إلى رفضها كلية، و من ذلك قيم”الرحمة” و “الشفقة” و”المساواة” ونحوها، باعتبارها قيودا، يؤكد نيتشة، على أن الضعفاء هم الذين اخترعوها لتقييد الأقوياء وحرمانهم من حقهم في الإستفادة من عمليه التطور” البيولوجي” التي تستوجب استغلال الأقوياء للضعفاء.
 كما أن هذا المنطق، ثانية،لا يختلف- قطعا- عن السياسة النازية  لأدولف هتلر، إن  في ألمانيا أو تجاه دول أوروبا -لا سيما الشرقية منها-  ولا عن ممارسات مواطنه بسمارك و موسيليني ، من قبله، ولا حتى عن ممارسات جوزيف ستالين في معسكرات الإعتقال والتعذيب الروسية.
 فأدولف هتلر،  كانت إيديولوجيته مرتكزة أساسا على العنصرية والتضييق والتشدد على الأعراق الأخرى وبعض الفئات الألمانية الضعيفة  وعلى ضرورة اعتبار تفوّق  بعض الأجناس البشرية على الأجناس الأخرى  ووجوب قمع بل وإبادة الأعراق الدنيا، مع الحرص على نقاوة و “طهر” الأعراق العليا وأعلاها إطلاقا العرق الآري (الألماني(. ولهذا فقد بطش هتلر باليهود لأنه كان يضعهم في أدنى سلّم الأعراق البشرية نظرا لأن جدته لم تكن يهودية فحسب بل وكذلك بائعة هوى. ومن هنا كان حنقه وحقده على اليهود هائلا ومضاعفا. ليس ذلك فحسب، بل إن هتلر مارس أيضا إبادة شعوب أوروبا الشرقية ومجموعات بشرية أخرى كثيرة من بينها الغجر والعاجزين والمعاقين،  وكنلك المثليين جنسياً، فيما كان يسمّى “الحل النهائي للأقليات” وما يعرف اليوم بالمحرقة أو الهولوكوست بتعبير هتلر ذاته، حيث كان يعتقد أن المتفوقين من ذوي الأجسام القوية و الذكاء الحاد هم الأولى أن يسودوا ويستعبدوا غيرهم من البشر و يسيطروا على أوروبا وصولا إلى قيام ألمانيا الكبرى على أساس سيادة الجنس الآري. هذا، علاوة على مضايقة ومطاردة وحتى اعتقال وطرد الأقليات من ألمانيا. وهو ما أدى إلى فرار حوالي نصف الأقليات من ألمانيا زمن الحكم النازي لهتلر شديد الإعجاب بفاشية موسيليني التي قد سبقته في ممارسة التطهير وبطشت بعشرات الآلاف من الضعفاء، بما ارتكبته من فضاعات وسفاهات وجرائم في حق الناس عن طريق ما يسمى ب”الأقمصة السوداء” وهي ميليشيا متطوعين بهيئة عسكرية تمارس العنف على الناس بطريقة مستلهمة من أفكار وممارسات لينين زمن الثورة البولشيفية، وقد استلهمها هو نفسه من آراء المفكر السياسي والنقابي الفرنسي جورج سوريل الذي أكد في كتابه “تأملات في العنف”(Réflexions sur la violence) “أن التحول الإجتماعي الحق لا يتم بالعقل والإقتناع بل بالعنف”
من المؤكد إن مقولة القضاء على الفقراء بدل القضاء على الفقر، حاملة لذات الفكر الرأسمالي  البورجوازي الخادم للمال وأصحابه، الساعي أبدا إلى عدم تحقيق التقارب – ناهيك عن المساواة- بين البشر، كما نادى بها فيلسوف عصر الأنوار”جون جاك روسو” في كتابه ” مقال حول أصل التفاوت” (Discours sur l’origine  de l’inégalité)
لا بل ولا ينكر هذا الفكر العدواني الإستعلائي والإستغلالي” الأهوج” أي رذيلة مهما كانت خستها، إلا إذا أضرت من الناحية المادية بالآخرين. وقد تجلى ذلك في انجلترا منذ انطلاق الحريات في القول والعمل و بداية استكشاف أسواق جديدة حول العالم ثم السيطرة عليها عن طريق بوابة الإستعمار الذي تبنى على الدوام نظرة وصائية وتحقيرية الى الشعوب المستعمرة .
وما بالعهد من قدم، فسياسة الرئيس بوش الإبن-غير المأسوف عليه ولا عليها- وسياسات زعماء ما يسمى بأسرائيل ليست إلا ترجمانا حرفيا أمينا لهذه المقولات السخيفة وهذا الفكر العنصري المقرف، البغيض والمريض بمركزية الذات وتضخيمها وجعلها مركزا لكل شيء من حولها في مرحلة ما من التاريخ وسحقه في مرحلة أخرى متقدمة. وهو حقيقة ما يجري اليوم في أفغانستان “كرزاي” وعراق “الطوائف” وفلسطين ” الإنقسامات في مقابل التطرف الإسرائيلي ” و صومال “أمراء الحرب والقرصنة ” وغدا في السودان المثقل والممزق بين مشكلتي ”دارفور والجنوب” و إيران ”النووية” وسوريا ولبنان المتهمين بالإرهاب ومصر والسعودية الموسومتين بقمعهما للأقليات من أقباط وشيعة. يحدث ذلك بمسوغات مختلفة تارة تلبس رداء الحرية والديمقراطية وتارة تلبس رداء ”الكوبوي” الذي سيقضي على “الإرهاب الإسلامي” كما ورد على لسان بوش الإبن الذي تخطى في دمويته كل جهابذة الإرهاب التاريخيين من أصحاب الضمائر المعطلة  بما يشبه الذهان الهذياني الذي يجعلهم يؤلهون ذواتهم من أمثال سيئي الذكر ؛ فرعون و نيرون وهولاكو ونابليون وهتلر وستالين  وتشاوسيسكو وصدّام والقذافي.
إن تصرف بعض ساسة الغرب لا يليق بأبعد قبائل ما قبل  التاريخ عن التحضر والإنسانية، وهو يقيم الدليل القاطع على أن غرائز الإنسان اليوم ما زالت كما كانت بالأمس، بل كما كانت منذ أيام توحشّه الأولى ما قبل التاريخ، أكثر توحشا من الوحوش ذاتها. فلم يبلغ إلى مسامعنا أن أسدا أونمرا إفترس أسدا أو نمرا آخر من جنسه، ولكن الإنسان وبدافع غريزي مستكن في نفسه يقتل إنسانا مثله لمجرد أنه أسود أو أحمر أو فقير معدم. لا بل ويتلذذ بقتله لأنه مسكون بهاجس الدم. حتى أن أوروبا بعد أن كادت تغرق في الدماء خلال القرن العاشر الميلادي جراء حروبها الداخلية، أعلنت بقلب واحد بعد ذلك، حروبها الصليبية على المسلمين بدءا من جبال آ لبرت (البرانس) وصولا إلى شمال العراق وبيت المقدس،لا لشيء سوى تلبية لهذا الهاجس أولا ثم استجابة  لمنطلقات دينية واقتصادية وسياسية لعل أهمها متطلبات النهضة الصناعية ثانية .حتى قال (كونور) في هذا المعنى: » إن الأنجلوسكسون هم أكثر القوى الإستعمارية الأوروبية تعمّدا للإبادة، حيث هدفهم النهائي هو افراغ الأرض من أهلها وتملّكها«.
ولا يسعني في نهاية هذه العجالة ألا أن أشير إلى تأثير الإتجاه الفكري الاستعلائي لمعظم فلاسفة ومؤرخي الغرب، القائل بضرورة اعتناق النظرة العرقية في التعامل مع الاخرين ، واعتبار العرق “النوردي” ، الذي يمتاز بالبشرة البيضاء الوردية والشعر الاصفر والعيون الزرق، أعلى الأعراق. وهو ما أفرز  تكريسا للمفاهيم الاستعمارية وجعل كاتبا مثل مارك بلوكMarc Block يدعو في كتابه “المجتمع الإقطاعي”   (La Société Féodale) إلى التعالي واحتقار عامة الناس. وهو ما يفسر أن الفكر الأمريكي لم يستنكر  أبدا عملية إبادة الهنود الحمر، و أن كبار مفكري الغرب، ولا سيما فلاسفة عصر الأنوار، لم يعبروا عن إحتجاجهم  عن الإستعمار وإرهاب الناس وسرقة أوطانهم، بل نظروا إليه على أنه  أمر طبيعي يطال أناسا  أقرب إلى الحيوانات التي تذبح يوميا دون أدنى ضجة حولها، فذلك قدرها المحتوم.
كم تمنيت لو أن  فولتير  Voltaireكان بيننا اليوم، حتى ينفي ما قاله هو وما قاله  ليبنتزLeibnizمن قبله عن تحسن أوضاع الفقراء والناس عامة في عصرهما والعصور اللاحقة ،  قياسا بالعصور السابقة، مما أدى إلى »حماية الفقراء من عسف الأغنياء، وأمن الناس من أن يامر أحد النبلاء بإلقاء رجل في السجن فيلقى به فيه دون رحمة « (…)ذلك أنه ومباشرة بعد عصر الأنوار، تكونت شركات إستعمارية عديدة وظيفتها الوحيدة هي صيد الرجال السود وشحنهم تماما كما تشحن البضاعة، بل كما تشحن البغال والحمير، ثم بيعهم فيما يسمى بتجارة الرق. وقد انخرط بعض المفكرين الغربيين بكل سفاقة في تأييد هذا الفعل المشين، المهين لكرامة الإنسان الأسود، بل قالوا أيضا-ورب عذر أقبح من ذنب-أن الجنس الأسود جنس من الحيوان ليس له إحساس ولا شعور ولا روح. ولم يكف ذلك، بل إن الكنيسة، رغم رفع بعض رجالاتها لشعار» السعادة لأكبر عدد« فإنها إنخرطت هي الأخرى في تزكية هذا الرأي السخيف، بما لا يدع مجالا للشك في أن لا وجود للضمير الإنساني،  لا عند اللاهوتيين ولا عند المدنيين بمن فيهم الفلاسفة التنويريين، وأن الإنسان ظل وسيظل محتفظا في كيانه بنفس الوحش الضاري الذي إستوطنه منذ حادثة قابيل وهابيل، وأن الغرب، حتى وإن أدعى عشقه للحرية والإنسانية والأخوة والمساواة، فإنما لا  ينشد من وراء ذلك أكثر من ممارستها داخل حدوده وبين مواطنيه فقط. ومن هنا كان تعامل الغرب مع بقية العالم بمعيار المكيالين وخير شاهد على ذلك ما حدث ويحدث اليوم في فلسطين وما وقع في سجن أبو غريب وفي قوانتنامو، تحت مسميات فضفاضة وشعارات براقة من مثل مكافحة الإرهاب “الوهمي” ونشر الديمقراطية “الشكليّة” و “المزيّفة”؛ فهي التي تشتري الأصوات وهي التي أفرزت “كرزاي” و” “أبو مازن” و”المالكي”. ولكن هل هؤلاء السياسيين ألمحدودي الحركة لأسباب معلومة، قادرين،حتّى ولو توفرت لديهم الرغبة، على رفع الظلم عن الفقراء البائسين، أو على الأقل الحد من معاناتهم التي لا تنتهي؟ قطعا لا. ومن هنا، فإني أجزم بأن هؤلاء وأمثالهم من القادة -العرب /البيادق ، يشاركون بشكل من الأشكال في  تنفيذ  مقولة »القضاء على الفقراء بدل القضاء على الفقر« سليلة الفكر البورجوازي العدواني العنصري المريض. ولكن من حسن حظ الفقراء أنهم بلغوا درجة من الوعي مكّنتهم من ان يستنهضوا قواهم وينطلقوا كالمردة الجبارين، الخارجين من قمقمهم لينقضوا على الحكام، الواحد تلو الآخر. ولن يتركوهم إلا وقد هجّروهم  أو  صرعوهم أو أزاحوهم بمذلة، في أفضل الأحوال. فليس من باب الصدفة أن تنطلق شرارة الثورة العربية -ولا أقول الثورات العربية لان في ذلك استنقاص من وحدة الإرادة القوميّةالعربية الفولاذية وجعلها إرادات مبعثرة هنا وهناك – أن تنطلق من مدينة سيدي بوزيد،التي تعجّ بالفقراء ذوي الرؤوس المرفوعة أبدا. بخلاف المستكرشين، ذوي الرؤوس والأنوف الممرّغة دوما في التراب، لا بل في الوحل، جرّاء فقدانهم لأهم مقوّم من مقوّمات الشخصية المتوازنة، ألا وهو الوعي بالكرامة التي مات من أجلها حرقا  الشاب التونسي ‘البوعزيزي’ ملهم ثوّار الربيع العربي. ومن هنا أطلق على الثورة التونسية، ثورة ‘الكرامة والخبز’، لا ‘ثورة الياسمين’  كما سمّاها، غداة تفجّرها، الغرب إلإمبريالي المناهض لتحرر الشعوب الكادحة من أجل رغيف عيش مرّ ويابس كما جاء ، في بداية القرن الماضي، في مسرحيّة  Le pain dur، ذات الثلاثة فصول، للكاتب والشاعر الفرنسي ‘بول كلودال’   Paul Claudel.