23 ديسمبر، 2024 5:48 ص

مليون عريف ومدينة واحدة

مليون عريف ومدينة واحدة

يقف تاريخ المدينة على قدمين متعبتين من أسى أزمنة كان سحرها وجمالها ورقتها وبالاً عليها ، فقد كانت هذه المدينة منذ بواكير البدء الحضاري لها وحتى اللحظة مانحة معطاء لما يحتاجه الوطن من جند ومناضلين ومبدعين ، وفي جمع الهواجس الثلاثة نحصل على حزمة من الدمع الذي ينبع من ذاكرة اللوح السومري ويصب في شهادة الوفاة التي تتداولها أمهاتنا في المحاكم ودوائر التقاعد وهن يتابعن مع انحناءة الظهر ولهيب الصيف معاملة أبنائهن من ضحايا الحروب الأسطورية والتي لا ولم تنته.

يكشف السجل الأساسي لأول دفعة مجندة من أبناء المدينة أرقاما تفوق أي أرقام لمدينة عراقية أخرى أثناء حملة التطوع التي قامت فيها الدولة العراقية عند تأسيس فوج المشاة موسى الكاظم في عشرينات القرن الماضي ، وفي مطالعة للأسماء تجد أبناء الريف الملاصق للمدينة يمثل الأغلبية الساحقة ، وهؤلاء وأبناؤهم تحولوا بمرور أزمنة الخدمة إلى عرفاء وضباط صف أدنى لتكتسب المدينة اللقب الشعبي المتداول بين ألوية وفرق الجيش العراقي بمدينة ( المليون عريف ).

أظن أن هؤلاء المليون على بساطتهم وبراءتهم وحبهم الجنوني في احتراف أنظمة الجيش وصرامتها مثلوا وجهاً وطنياً خالصاً يقع في خانة المشابهة مع الوجه الوطني القديم لجنود روما عندما تتشابه ساحات العرض وجبهات القتال مع تلك الرؤية التي كان يضعها قادة فيالق جيوش قيصر ليصير موت الروماني هو تألق لمثالية الانتماء إلى هيبة وجود مدينة هي ( روما ).

أظن أن موت العريف في ظروف جديدة لحرب عولمية تتشابه تماما مع ذلك الموت الإسبارطي أو ذلك الذي كان جنود سومر يدفعونه ثمنا لسعادة السلالة أو الأمير أو كما يقول اللوح القديم : لكي تبقى النخلة مزهوة على ضفافها الفراتي وقريبة من ثمالة الإلهة وخلودها علي أن ادفع جسدي ثمناً لذلك أي كانت روح سومر طيبة أو شرهة لامتلاك أمكنة أخرى ).

وهكذا ترينا قوائم المتطوعين الأوائل في دائرة تجنيد الناصرية وجوها من رغبة قديمة لهاجس السيف والبندقية ليثبت فيها الإنسان وجوده من خلال هاجسين لا غير ، حماية التراب الوطني وقتل جوع المنزل وبطون الصغار الذي تركهم العريف في القرية أو زقاق المدينة حفاة ويرتجفون من البرد في انتظار حقائبه المحملة بقماش الشمال السميك وأكياس الجوز والحناء وغيرها من الهدايا التي كانت تصنع في القلوب فرحاً وبهجة واحتراماً لذلك الذي رغب ليكون متطوعاً في جيش العراق والملك والأمة العربية.

ولدت الناصرية مع حلم تركي ، وانتهت اليوم مع حلم متعدد الجنسيات ، وبين الحلمين تحاول المدينة أن تغرد خارج السرب وتصنع خصوصيتها الجنوبية التي تريد فيها النأي عن تواريخ مثل تلك ، فهي تحاول حتى في أرشفة وجودها أن تذكر فقط اسم مؤسسها مدحت باشا ولا تشير إلى غير ذلك.فما يربطها بالوالي والصدر الأعظم لاحقاً سوى الفرمان السلطاني ، وما تلاه كانت المدينة خاضعة لسلطة عشائر المنتفك وبقيت تحمل اسم لواء المنتفك الذي لحقت فيه أمصاره القديمة والمستحدثة كقضاء سوق الشيوخ والشطرة وقلعة سكر والجبايش والرفاعي وغيرها من النواحي والقصبات.

أسس الباشا المدينة ثم نسيها إلى هموم أخرى حملته من منصب إلى عزل والى المؤامرات والنفي بعد أن حضي بشرف أن يكون صدرا أعظمَ للحاضرة السلطانية في الاستانة لينتهي فيه الأمر منفياً في الحجاز وليكتب لزوجته الشركسية حنينه إلى أمكنة أحبها وعاش في رؤى تحديث أشواقها كما في بغداد عندما أسس خط الترامواي وجلب الكهرباء واستحدث ولأول مرة في العراق نظام التجنيد الإجباري ، لكنه وكما اطلعت على أوراقه وبعض المتناثر من تلك الذكريات واليوميات لم يأت على ذكر المدينة التي صنعت بفرمان منه ، وربما نسي تلك البيوت المشيدة بالطين والقصب والآجر لتنمو بعد حنين وتصير رقما صعبا في ذاكرة الجيوش الانكليزية الزاحفة بأرتالها الهندية والايرلندية والاسترالية والانكليزية من البصرة صعوداً إلى بغداد وليتوقف طويلا زحفها عند البطيحة في معركة باهيزة وليكتب ضباط الحملة الكثير عن هذه المدينة التي كانت بالنسبة لهم خط المواصلات الرابط بين الكوت والبصرة وبغداد ، وربما اثر هذا التوقف الطويل في سير العمليات في هزيمة الجنرال الانكليزي طاوزند في معركة الكوت أمام جيوش الترك بقيادة الفريق خليل باشا وليخضع هو وجيوشه إلى حصار طويل انتهى باستسلامه وأخذه أسيراً إلى بغداد ومن ثم إلى الاستانة.

بين العصملي والسير برسي كوكس المفوض السامي البريطاني تأخذ متصرفية لواء المنتفك حظها كما باقي المدن وتفتح الناصرية أذرع التحول للحكومة الوطنية الجديدة بالرغم من الانتداب والوصاية والاستعمار المبطن.