23 ديسمبر، 2024 1:22 م

مليشيات تؤسس لفكرة معاداة الدولة للهيمنة على كل شيء في العراق ومنع قيام دولة القانون

مليشيات تؤسس لفكرة معاداة الدولة للهيمنة على كل شيء في العراق ومنع قيام دولة القانون

في لقاء المفكر اياد جمال الدين في برنامج سحور سياسي مؤخرا، والذي كان رائعا بما سجله من أفكار وتنويرات لاماكن معتمة تحسب له؛ ومن اهم هذه النقاط فرق بين الحشد الشعبي والمليشيات التي اتخذت من الحشد الشعبي الذي لبى نداء المرجعية، ستارا لتمرير عملياتها وتطاولها على هيبة الدولة.
 وسجلت بغداد عدة عمليات امنية قامت بها مليشيات محسوبة على الاحزاب الحاكمة لكنها تسيء للأمن والدولة في العراق مثل (مداهمة صحيفة البيان في الوزيرية وجريدة الصباح الجديد ومداهمة نادي الادباء ونادي الشعراء الشعبيين ومداهمة نادي ليلي، وخطف قيادات من حزب الله في مناطق الكرادة ومداهمة مركز شرطة التاجي والخالص لإخراج السجناء وغيرها) من عمليات لأجل التأسيس لسلطة المليشيات.
وهذه المليشيات تزرع في ذهن مناصريها فكرة معاداة الدولة لتهيمن على كل شيء في العراق ويمنع قيام الدولة   
فهناك فكرة ثنائية الدولة والدويلة في العراق التي اوجدها السلوك السياسي والمسلح للمليشيات والذي اساء لانتماءاتها واظهرها على غير صورتها الحقيقية.
واكد النائب السابق محمد الهنداوي في برنامج ستوديو التاسعة ليوم 2/8/2015 بان بعض الأحزاب والمليشيات استغلت الحشد الشعبي وقامت بتوظيف عناصر احزابها ومليشياتها في الحشد الشعبي.
  كيف يمكن تلخيص عقائد هذه المليشيات السياسية أو الدينية والمنضوية تحت كتل سياسية معروفة، وما المشروع العام الذي تتبناه وما اهدافه المرسومة؟
إن الطموحات السياسية للمليشيات التي انضوت مؤخرا في الحشد الشعبي بدأت تلوح في الأفق، عندما بدأت تصريحاتها تأخذ الجانب السياسي الساخط على النظام السياسي القائم للدولة العراقية وقد حاولت الحكومة العراقية قبل شهرين تحويل الحشد الى أمرتها لها في محاولة منها لمنع هذه الفصائل من زيادة نفوذها السياسي والاجتماعي في البلاد.
ولكن محاولات الحكومة العراقية تبدو غير كافية، إذ تتمتع بعض المليشيات وخصوصاً تلك المدعومة خارجيا بنوع من الاستقلالية في اتخاذ القرارات الأمنية والعسكرية، كما إنها تتسبب في فوضى في المناطق التي تنتشر فيها، ويتجوّل عناصرها بدون وثائق قانونية ويصعب محاسبتهم عند ارتكابهم أخطاء.
والحكومة وبعض الشخصيات السياسية والأحزاب لمعوا من دور المليشيات لأضعاف الجيش؛ بحيث أصبحت هذه المليشيات لا تلتزم بأوامر المرجعيات او السلطات السياسية او الأمنية وأصبحت الرئاسات الثلاث في موقف المتفرج لصولات وبطولات هذه المليشيات في مجال خروقاتها الأمنية وفي وضح النهار وفي أماكن تعد واقعة ضمن المربع الأمني للحكومة.
وكلما كان المليشيات التابعة لذاك الحزب أو الكتلة، قادرا على بث الرعب في صفوف المواطنين، ضمن مستقبله السياسي وصار صوته أعلى في انتزاع المناصب والمكاسب، على اعتبار أنه هو القادر على مسك زمام السلطة، مما ادى إلى أن يكون الرعب السياسي هو السائد لإدارة دولة اسمها العراق، وبالتالي إبقاء المواطنين في حالة شعور دائم بأن فوقهم ميليشيات لا تمتثل الا لقادتها وتتحكم بمصائر المواطنين، فأصبحت البلاد تعيش وضعا (انقلابيا) من الناحية العملية بعد ان صارت السلطة العسكرية للميلشيات وليس للجيش.
ان بعض قادة هذه المليشيات وتحت ذريعة وجود تنظيم داعش الارهابي شجّعهم على زيادة نفوذهم باعتبارهم قوة عسكرية غير رسمية، قدمت تضحيات من الرجال والسلاح الى جانب الجيش والشرطة والعشائر من أجل تحرير المدن، وهي ترفض تسليم هذه المدن المحررة إلى سكانها وشرطتهم المحلية كما حصل في صلاح الدين وديالى وشمال بابل، مما أربك الوضع الأمني والمشهد السياسي عموما.
ان أكثر المليشيات المنضوية تحت حركات سياسية اسلامية تورطت في السلوك السياسي ذاته الذي تورطت به كل الحركات والأحزاب الاسلامية السياسية التي سبقتها(كحزب الله في لبنان)، وهو تحويل الاسلام (كلٌ حسب فهمه ومذهبه) الى اسلام سياسي، اي الى قوة سياسية ضاغطة وفاعلة في المجتمع، ادت فيما ادت الى تعميق الانقسام داخل البنية الاسلامية وتحويلها الى تنظيمات ومجموعات حركية متصارعة، مرة تتصارع فيما بينها، ومرة تتصارع مع السلطة القائمة وعليها، ومرة تتصارع مع المجتمع.
 هذا من جملة الامور المُهْلِكة التي وقعت بها المليشيات كما حصل في لبنان،  وهذه  المليشيات لها نشاط مريب يتمثل، بانتقاله من حركة اسلامية توعوية وظيفتها الارشاد والتثقيف الديني، الى حركة سياسية مسلحة، مرة تقاتل في سوريا ومرة ضد الدواعش ومرة تقاتل الدولة القائمة، ومرة تسعى الى السلطة، ومرة تتدخل في شؤون دول أخرى، ومرات تنفذ مشاريع سياسية لدول خارج الحدود الجغرافية للبلد الذي تعيش فيه، فتورطت في تدعيم مشروعٍ طائفي لم يهندس معالمه، وعقيدة دينية وسياسية لم يساهم في بلورتها، فأصبحت هذه المليشيات وكتلها السياسية من المدافعين عن هذه المشاريع الطائفية، والمساهمين في ترغيب اخرين وترهيبهم، وباتوا محل سخط من المكونات الأخرى.
ان هذه المليشيات تؤمن بان العقيدتين الدينية والسياسية، لا تحتملان الانفصال، ذلك ان العقيدة السياسية كي تتغلل في عقول الناس وتفعل فعلها في التأثير في سلوكهم السياسي والثقافي والنفسي والاجتماعي, فأنها تحتاج الى عقيدة دينية متطرفة، خلاصتها انتاج عقلية لا تتلقى سوى عقائد الاضطهاد ومشاهد المأساة، وبهذه الالية باتت هذه المليشيات مجموعة تابعة، حاملة عقيدة سياسية صلبة، وظيفتها توسيع قنوات دولة الحق المزعومة التي تكون المليشيات احد اهم اذرعتها، والانتقال تاليا الى قيادة المستضعفين (كما يستعملونها في خطاباتهم) في الارض. وهذه المليشيات تستخدم المساجد وتُستعملها لوظيفة سياسية تتخطى موضوع العقائد الدينية لتصل الى زرع بذور لعقائد سياسية حزبية لا تنتج الا مزيدا من عدم الاستقرار.
والسؤال الذي يرد الى متى سيبقى التعايش ممكنا بين مشروع الدولة العراقية وبين مشروع المليشيات؟
وهناك استحالة قانونية وسياسية في التعايش بين فكرتين ومشروعين متناقضين، لأننا لو استجلينا المقاصد والمعاني لهذا التساكن الهش، او بالأحرى الانفصال القائم بين المشروعين، اي مشروع الدولة ومشروع المليشيات لوجدنا المقاصد المتحققة مدمرة لبنية المجتمع ولا تخدم دولة القانون، وانفصال المليشيات عن الدولة، لم يكن مصادفة تاريخية لها شروطها السياسية، بل جوهرا ثابتا؛ اي متأسسا في الاساس على استقلال مطلق في الامن والايديولوجيا والسياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد والفهم والسلوك والعادات، ان نشاط المليشيات وتزعمها لكتل سياسية كانت نتاج لتراكم امني وسياسي واجتماعي ونفسي وثقافي واقتصادي صارا من خلاله امرا واقعا، اي (دويلة واقعة) تعصى على التجاهل، هذه الدويلة، والتي اسستها المليشيات طبعا، كان الهدف من تأسيسها واحدا من امرين:
الأول: ارباك وضع الدولة الطبيعية بكافة جوانبه.
الثاني: الانطلاق من شبه دولة تحتل لاحقا كل الدولة.
او الاثنين معا في الاول، فان (استحباب) ارباك وتنغيص عيشة الدولة كراعية لمكوناتها الانسانية، ينطلق من الحاجة الى وجود دولة عراقية مهتزة مهترئة هرمة، لجهة ان هذه المليشيات لا تستطيع العيش، بسبب تركيبتها واهدافها، الى جانب دولة طبيعية مستقرة.
المليشيات في العراق لها مثلث من الأهداف تتمثل بوجوب السيطرة والتوسع والاستئثار، يستدعي الانطلاق بهيكلية دولة مصغرة، تكون معبرا للامساك لاحقا بكل مفاصل جارتها، اي الدولة العراقية؛ وكي تكتمل صورة الدولة بهدفيها، متحدين او منفصلين، خلقت المليشيات لدويلتها اسُسَ وجودها واستمراريتها المادية، وقامت محاولة ان تصنع لمناصريها هوياتٍ امنية وثقافية وسياسية خاصة، وضمن ايديولوجيتها تفرقهم عن اخوانهم من العراقيين، هذه الأيدلوجية لها صبغة امنية دينية مذهبية بذراعين طويلتين، واحدة تغلق المناطق التي يسكنوها وتنظم امنها، وتحولها الى ثكنة عسكرية ممنوع على اجهزة الدولة دخولها، والاخرى تسرق حرية الناس وفي بعض الأحيان أموالهم، وتمتد خارج حدود الدويلة لتعتدي على هيبة الدولة متى استدعتُ الحاجة فعل ذلك، وهذه المليشيات لها مصالح اقتصادية عليا وكبرى والتي انشأتها بطرق غير شرعية؛ لتضمن استمرارية تواجدها وديمومتها.
 هذه المشهديه خلقت وزرعت في نفوس مناصري هذه المليشيات وعن قصد طبعا، جوا معاديا حتى لفكرة اسمها دولة، وهذه المشهدية اغرقتهم وطمرتهم في مستنقع مذهبي وطائفي ضيق يملأ عليهم وعيهم وتصرفاتهم. هذه التصرفات والممارسات اصبحت حقائق تفرض نفسها بقوة، بل، تهدد وجود الدولة العراقية، ناهيك عن عبثها الواضح بالسيادة وضربها بعرض الحائط مكونات اساسية من مكونات الدولة الطبيعية، ولعل هذه الحقائق تفيض عن حاجتنا للاستدلال على ان المليشيات يساكن مكرها الدولة العراقية، بل ينفصل عنها من دون اشهار. من هذا المنطلق، ليس هناك امكانية للتعايش، لان المليشيات تستعين بحقائق دولتها وترسخ وعيا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا وامنيا جديدا يكون بمثابة تجسيد أبدي لهوية لقيطة تحفرها على جباه العراقيين وإذا لم تجابَه بصلابة وحكمة وروية؛ فان هناك خطرا يقول بانفراط عقد الدولة العراقية.
وهنا يأتي السؤال: ما مصلحة هذه المليشيات وكتلها السياسية ومناصريهم، في الذهاب باتجاه المطالبة بأسقاط نظام الحكم، والضرب بعرض الحائط الدولة العراقية وبقية المكونات اساسية التي ترغب بسيادة الدولة والقانون؟ ثم، اليس النوع هذا من السلوكيات يهدد الدولة العراقية والمخالفة للعقد والاجماع سيعود بالمكروه عليهم وعلى مناصريهم؟
وأخيرا (وللمقال تكملة) ان الامام جعفر الصادق (عليه السلام) قال:
((لا يخرج الخارج منا اهل البيت الا واصطلمته البلية واخترمته المنية وكان خروجه زيادة في مكروهنا ومكروه شيعتنا))، وبالتالي، الم تفهم هذه المليشيات ومناصريها من هذا القول، بان الامام الصادق (عليه السلام) يقصد منه بان الخروج إذا كان مؤداه تعطيل النظام العام فهو مرفوض وباطل.