تقوم الدولة السليمة بخطط سنوية وخمسية (كل خمس سنوات) ومئوية من أجل النهوض بالواقع الصناعي والزراعي والخدمي والتكنلوجي والترفيهي وبقية القطاعات الحيوية وذلك خدمة للوطن والمواطن.
ولقد أثبتت التجارب الإنسانية أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن أن نجد سياسة ناجحة بلا اقتصاد متميز والعكس صحيح جدا!
ويعاني العراق منذ الانتكاسة الكبرى المتمثلة بالاحتلال الأمريكي من فقدان للمشاريع الحيوية وتخريب متعمد وغير متعمد للغالبية العظمى من المشاريع القائمة قبل العام 2003، في بلد يضم أكثر من 57 ألف معظمها متوقفة عن العمل وفقا لتصريحات رئيس اتحاد الصناعات العراقية عادل الحسين منتصف حزيران/ يونيو 2021!
إن الكتابة حول المشاريع الوهمية في العراق مهمة عسيرة وذلك بسبب التكتم والتعتيم الرسمي ثم النفوذ السياسي والترهيب والسلاح المنفلت والتجاهل الإعلامي وغيرها من الأسباب التي تصب جميعها في مصب واحد يؤكد غياب الخطط التنموية والسياسات الدقيقة الهادفة لبناء البلد والنهوض به.
ويعد ملف الفساد والمشاريع الوهمية من الملفات المعقدة في العراق ولا يمكن الاقتراب منه لأنه ضمن المناطق المحرمة والخطوط الحمراء باعتباره جزء من سياسة تمويل القوى المالكة للسلاح والكثير من الأطراف الفاعلة في الشارع العراقي.
وتعتبر المحاولات الرسمية المتأخرة جدا لمكافحة الفساد واحدة من أهم مطالب مظاهرات “تشرين” 2019 وثمارها، وهي مظاهرات أنهت حكومة عادل عبد المهدي وتلاها عشرات الوعود بمحاسبة القتلة والفاسدين.
ومن هذه المنطلقات سنحاول التركيز على بعض صور الفساد المالي والمشاريع الوهمية التي أكلت مئات مليارات الدولارات من قوت 40 مليون نسمة ربعهم من الفقراء، وذهبت لبطون حيتان الفساد وفي حسابات مصرفية وبأسماء وهمية وحقيقية خارج العراق، وهو الأغلب، وداخله.
وشملت المشاريع الوهمية في العراق مئات المعامل والمصانع والطرق والجسور والمدارس والمستشفيات والمشاريع زراعية وعقود جولات التراخيص والمراكز الترفيهية وغير ذلك من المشاريع المكتوبة على الورق أو التي وضع لها حجر الأساس فقط ثم صارت أثرا بعد عين.
وهذه المشاريع الوهمية لا يمكن أن يجرؤ أي تاجر مهما كان كبيرا أن يخطو خطوة للإقدام على ترتيبها إن لم ينسق مع شخصيات فاعلة وأحزاب قادرة على حمايته والتحرك باسمها.
وسبق لرئيس هيئة الاستثمار الوطنية، سهى النجار، أن كشفت منتصف آذار/ مارس 2021، عن وجود 1770 مشروعاً وهمياً ومتلكئاً في عموم العراق، وأن المشاريع المنجزة هي 500 فقط، وأن من بين الإجازات الممنوحة للشركات يوجد 970 مشروعا نسبة الإنجاز فيه صفرا والتي تعتبر وهمية، إضافة الى 800 مشروع متلكئ نسب الإنجاز فيها متفاوتة ولكن لم تنجز!
وعادت النجار لتؤكد لقناة الحرة الأمريكية بعد أقل من شهر بأن هنالك من بين 2322 مشروعا منحتها الهيئة الوطنية للاستثمار في العراق خلال السنوات الماضية، لم ير النور أو يقترب من رؤيته سوى 613 مشروعا، وأن نحو 1000 مشروع منها كانت وهمية، وتبلغ قيمة المشاريع المسجلة، غير المنفذة نحو 70 مليار دولار، وقيمة الأراضي الممنوحة لتلك المشاريع الوهمية تصل إلى 60 مليار دولار!
وأعلنت هيئة النزاهة العامة العراقية في تقريرها السنوي نهاية العام 2021، تورط (11605) مسؤولاً في قضايا فساد متنوعة، وجهت إليهم (15290) تهمة، وأن من بينهم 54 وزيراً ومن بدرجته، وجهّت إليهم (101) تهمة، ومن ضمنهم (422) متهماً من ذوي الدرجات الخاصة والمديرين العامين وجهت إليهم (712) تهمة.
وفي منتصف كانون الثاني/ يناير 2022 أكد الخبير في الخبير في مكافحة الفساد سعيد موسى أن العراق يبحث عن مبلغ (360) مليار دولار، وهي تكاليف الفساد في المشاريع الاستثمارية الوهمية والمتلكئة مع تكاليف تضخم الأسعار في التخمين والتقدير لأسعار السلع الموردة للحكومة.
هذه الآفة المستعصية دفعت حكومة الكاظمي في نهاية آب/ أغسطس 2020 لتشكيل لجنة تحقيق عليا برئاسة الفريق أول أحمد أبو رغيف مرتبطة بمكتب الكاظمي تختص بالتحقيق في قضايا الفساد الكبرى والجرائم الجنائية، وهذه اللجنة معروفة بلجنة (أبو رغيف)!
وتحركت اللجنة بقوة لمكافحة الفساد إلا أنها لم تقترب حتى اللحظة من كبار الفاسدين أو حيتان الفساد، وذلك لأسباب سياسية، ورغم ذلك فقد كشفت اللجنة ملفات خطيرة لم يقترب إليها أي أحد منذ أكثر من 15 عاما!
وفي الثاني آذار/ مارس 2022 قررت المحكمة الاتحادية إلغاء لجنة ” أبو رغيف”، وبالتالي التوقف عن ملاحقة الفاسدين!
ويمكن السعي لعلاج آفة الفساد والمشاريع الوهمية عبر الخطوات الآتية:
ضرورة تقوية الاستقرار السياسي والأمني وذلك سيقود حتما للقضاء على الفساد لأن عصابات التخريب تعمل في مراحل وأوقات الفوضى.
الحزم في تطبيق القانون وعدم المجاملة في الأموال العامة ومعاملتها معاملة جرائم الإرهاب، وإعادة تفعيل لجنة (أبو رغيف).
الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية وعدم السماح لأي طرف سياسي أو عسكري التدخل في عمل القضاء وتوفير الحماية اللازمة للقضاة.
وقد أكد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) التابع للحكومة السويدية، في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2021 عبر توصياته للدولة العراقية أن نظام تقاسم السلطة الطائفي، بمؤسساته الضعيفة وضعف المحاسبة، أضعف الاقتصاد وعرقل أداء الدولة، وتوفير الخدمات الأساسية، وتطوير مؤسسات قوية وآليات للمحاسبة، وأن العراق على حافة الهاوية!
الاستفادة من خبرات الدول الأخرى في مكافحة الفساد، ومن بينها إيطاليا كما قال رئيس الحكومة وغيرها من الدول!
نشر سياسة الشفافية، والتشديد على مراقبة دوائر الدولة العسكرية والمدنية، وإعطاء صلاحيات إدارية وقانونية للجان المراقبة والمتابعة في عموم مؤسسات الدولة.
العمل على استرداد الأموال المنهوبة سواء أكانت داخل العراق أم خارجه.
وفي 23 مايو/ أيار 2021، قال الرئيس برهم صالح إن 150 مليار دولار هُربت من صفقات الفساد إلى الخارج منذ العام 2003!
فيما كشفت لجنة النزاهة البرلمانية نهاية شباط/ فبراير 2021 عن تهريب نحو 350 مليار دولار من الخزينة العمومية خلال 17 عاما الماضية!
فكيف سيتم استرداد هذه الأموال الطائلة؟
إلزام الشركات بتقديم ضمانات مادية ومالية (عقارات وحسابات مصرفية) تحتجز لخمس سنوات، وتصادر في حال الإخلال بالعقود المبرمة مع الدولة.
رفع المستوى المعاشي للموظفين لتحجيم آفة الرشوة والتأكيد على القوانين الضاربة لمن يستهين بالمال العام أو يستغل وظيفته الرسمية.
هذه الخطوات العملية والقانونية وغيرها يمكن أن تساهم في التقليل من ظاهرة الفساد والخراب والمشاريع الوهمية في عموم العقود الرسمية.
ويتضح مما تقدم أن النهب للمال العام والتخريب والسرقات عبر المشاريع الوهمية الخيالية لم تكن ممارسات عشوائية وإنما جرائم تنفذ بمنهجية واضحة ودقيقة، وربما، علمية وبعيدة عن الملاحقات القانونية لأنها تتم بموجب الصلاحيات المتوفرة للمسؤولين والبعيدة عن المساءلة والرقابة المالية.
وهكذا أثبتت الحقبة الماضية أن معاول الفساد هدمت الدولة العراقية تماما كما فعلت الدبابة الأمريكية والسلاح المنفلت!
فمن سينقذ العراق من آفة المشاريع الوهمية القاتلة لحاضر العراق ومستقبل مواطنيه؟