في صفحات التأريخ العربي ولاسيما العراقي، ومن خزين ماسجلته كتب أرشيفه ومجلداته، هناك شاعر عباسي اسمه سعد بن محمد الصيفي التميمي، لصق به الناس آنذاك اسم الـ (حَيْص بَيْص)، ذلك انه خرج يوما الى السوق فرأى الناس في هرج ومرج وجَلبة وشدة فقال: مالي ارى الناس في حَيْص بَيْص؟!. فثبت ذلك الاسم عليه.
وما قاله كان في زمن تتكون الحكومة فيه من الخليفة وحجّابه والوزراء والقضاة والمستشارين وقادة العسس (الشَرطة). وكانت جل مشاكلهم من تدخلات دول الجوار، اما المشاكل الداخلية فكما روى لنا التاريخ كانت تـُحل بجلسات بين شخصيات ذات مكانة اجتماعية مرموقة مع كبار الدولة، وكان البلد -مع ماتعتريه من مشاكل- سائرا في ركب التطور وان كان بطيئا.
اليوم وقد دخلت التكنولوجيا والعلم جميع مفاصل الحياة بما يسهِّل ويعجِّل تقدم البلدان التي يضع حكامها مصالح شعوبهم من أولويات جداول أعمالهم، ماذا يحدث في بلد هو مهد الحضارات؟ البلد الذي شـُرّعت فيه أول القوانين، وكـُتِب فيه أول حرف، وغير ذلك من الاختراعات التي كان سبّاقا بها.. ماذا لو قارن أي مُنظـِّر بين مايملكه العراق من رصيد تاريخي في العلوم والمعارف، وبين ما هو عليه اليوم نسبة مع باقي الامم؟ وهو الذي يقول فيه الشاعر:
لا ينزل المجد إلا في منازلنا
كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
أظن أن عملية حسابية بسيطة للغاية في النسبة والتناسب، توضح مكانة العراق على الصعيد التكنولوجي والعلمي والثقافي بين أمم وُلِدت بعده بقرون. وبات من المألوف جدا أن نستعين بمن تلونا في الحضارة من بلدان الشرق والغرب، كما لم يعد مستغربا إرسال أبنائنا الى دول حديثة عهد بالعلم والمعرفة، لينالوا شهادة جامعية أولية مثل البكلوريوس والدبلوم، وكذلك الدراسات العليا في التخصصات كافة العلمية منها والإنسانية. ولم يعد غريبا أيضا أن يستطبب مرضى العراق في مشافي دول صار لها باع طويل في مجال الطب.. هذا المجال الذي سبقتنا فيه دول كان أبناؤها يُبتعثون الى العراق لإكمال دراستهم في كلية الطب، ومن عاصر منا عقد السبعينيات والثمانينيات يذكر جيدا كيف كانت الأقسام الداخلية تكتظ بالطلبة العرب والأجانب الذين تسلحوا بما قدمته لهم جامعتا بغداد والمستنصرية.، واليوم أخذوا دور المعالج الذي يعالج مرضانا في بلدانهم، كالهند على سبيل المثال لاالحصر. وتلك نتيجة حتمية، فمع أن أجدادنا ملأوا المكتبات بأبحاثهم واكتشافاتهم واختراعاتهم في العلوم كافة، إلا أن ما فعلته الحكومات المتتالية هو الحفاظ على هذا الكنز كإرث مادي، وضمه كملكية خاصة مع التيجان والأموال والقصور والضيعات الى أملاك الملوك والرؤساء والحكام. ليكون رصيدا لهم ولعوائلهم وأحفادهم وليس لأبناء هذا البلد. وقد تناسل أولئك الحكام وصار أحفادهم من ساسة العراق وقادته وحكامه اليوم، ينتهجون النهج ذاته والسياسة ذاتها في إقصاء العلم والتعليم وركنه في مكان قصي بعيد عن مواكبة باقي دول المعمورة.
وبعودة الى شاعرنا الحَيْص بَيْص، أقول: ماذا لو بُعِث اليوم من جديد الى الساحة العراقية..! ورأى الفوضى التي يعتاش عليها كثيرون من مسؤولي البلد في مؤسساته التربوية والتعليمية والتدريسية، ماذا يقول إن رأى هرج ومرج الآراء والقرارات والتضارب فيما بين أصحابها والباتين بإصداراتها، وسط الجدالات والصراعات والخلافات والاختلافات والمناكفات والمماطلات في كل صغيرة وكبيرة؟ وإذا أراد تشبيه قادة عراق اليوم مع بعض من قادته بالأمس، فلا أظنه يجد من بين الحاضرين منهم، من يعي مايفعله في بلده من سوء، فجلهم -إن لم يكن كلهم- لا يفقهون من الشعور بالوطن وقضاياه شيئا، ولعل شاعر الأبوذية أجاد حين قال:
راح المفره گليبي… وينساه
واجاني الماعرفت طبعه… وينساه
أتم اقره دهر باذنه… وينساه
ويرد يسيلني شنهي القضيه