23 ديسمبر، 2024 4:47 ص

جبار النجد تمثل رومانسية البريكان حَيداناً لافتاً عن رومانسية مجايليه في أربعينات القرن الماضي ، بل إن هذا الحيدان ظل حاضراً إبان انتقال الشعر من حال الى حال واستمر حتى يوم مقتله ، ولعل رومانسيته الشعرية هي احد ابعد الرومانسيات عن (الذات الماثلة لأهوائها) ولو اسرّتنا الرومانسية ذاتها على سبيل الفرض لأفصحت عمّا فعله البريكان هو شيء آخر مختلف ، لقد كانت قصائده تعارض الشفقة على ذاتها وتراهن على امتلاك شفقة الآخرين ، وبذلك استطاعت أن تقدم جزءاً من أسمى رومانسيات العالم ، في الوقت الذي لم يكن بوسع احد مشاطرة رومانسية قصائده من جهة خصالها الإنسانية المسكونة بالآخر ، بسبب إن قصائد البريكان آنذاك عملت بما يتجاوز مقاصد الرومانسية ذاتها ، تبعاً لما يعتمل بداخلها من قلق من شأنه استعادة الحضور الإنساني في الشعر ، حتى وان جاء بقدر من الضمنية لتدلنا بان الرومانسية المنشغلة بقيمة إنسانية لا تلعب في ملعب الشعر السائد في زمانه ، وعلى وفق ذلك فان رومانسية البريكان تثير في الشعر شيئاً آخر متمثلاً بانصهار الفردية مع الموجودات اجمعها متجاوزة حالة الاندماج الانفعالي في الشعر الرومانسي ، وذلك يعني إن فهم البريكان في ذلك الوقت للرومانسية ربما كان تغايراً مقصوداً لها ، وإذا لم نستطع الجزم فان بوسعنا القول بأنه قد ذهب بالرومانسية الى ابعد مما ذهب إليه شعراء جيله ولم يكن متساوياً معهم في وقوعه بالنزعة الرومانسية ، للدرجة التي تتيح لنا التمييز بين وجود الشعر من اجل ذات الإنسان كفرد وبين وجوده من اجل ذات الآخرين وصولاً الى ذات الإنسانية بأسرها ، تلك الميزة مكنته من اعتماد ذاته الإنسانية بديلاً عن ذاته الرومانسية ، تمهيداً لمراحل لاحقة في تجربته الشعرية ، تمثلت في إرساء الفكر داخل الشعر بدوافع (تطوير مفهوم مختلف للإنسان ومكانته في الشعر) ، ان النزعة الرومانسية في شعر البريكان ليست نزعة ذاتية محض بقدر ما هي مستوى من مستويات الذات التي تتضمن ادراكاً لما هو آخر ، ومن شأن هذا الإدراك إن ينتج صياغات فلسفية في داخل رومانسيته ذاتها ، ويتضح ذلك في قصيدته (غسق) المنشورة في مجلة الأديب عام (1948) :
ما للوجود كأنما عبرت
تدعوه نازلة الى سفر
والافق مطوي على لهب
فكأنما هو محجر القدر
فعلى فجاج الارض غاشية
وعلى السماء وجوم محتضر
هي قصتي : امسيت اقرؤها
في كـل ملموح من الصور
ويقول في قصيدته (مصرع خيال):
ارى كل منطلق في خطاي
يضيق ، وكل طريق يميد
واشعر آناً كأني هرمت
ومت ، وآناً كأني وليد

لا عجب إذن لو اعتبرنا قصائد البريكان في تلك الحقبة بمثابة نصوص متمردة وسط قيود الرومانسية ، بوصفها تمثل نفياً لطروحات الرومانسية ذاتها ، في جوانب مهمة منها ، ليبرز الفارق الأساس بين انتقال رومانسية الذات المحتدمة و المنغلقة على نفسها الى رومانسية الذات المتطلعة الى ما حولها ، بل والمتعدية للذات الواقعة وراء زمنية الشاعر نفسه ، وتكشف لنا قصيدة (رحلة الدقائق الخمس) المنشورة في عام (1951م) عن طبيعة مغايرة لخصائص طبيعة الشعر السائد وقتذاك ، حينما يتجاوز الشاعر البريكان علاقة ذاته بإنتاجه :

مدينة موحشة وعالم غريب
الثلج في الشارع
والشمس لا تغيب
……………….
هنا يذوب الهمسْ
ويجمد الصخبْ
وتكذب النار . وتبقى رعشة اللهب !

ومثلما كانت الرومانسية انعكاساً لذاتية الهم الشخصي ، كانت قصائد جيل ما بعد الرومانسية ، تمثل انعكاساً لذاتية الهم السياسي ، في تلك الآونة كانت رؤية البريكان الشعرية المتجلية عبر قصائده ، تقف حائلاً من دون حدوث الانفعال ألانتقادي او المحتج في شعره ، وهو الانفعال الذي يتلقى تأثراته من الانفعال السياسي ، في حين كان شاغل البريكان الشعري ينصب على الإفصاح عن الذات الإنسانية بدلاً من الذات السياسية ، الأمر الذي يدعونا الى التفريق بين مسألة الانتماء السياسي التي تضاف الى ذات الشاعر الشخصية وميوله الخاصة ، وبالطبع فان الميول والانتماءات السياسية حتى وان كانت تحتوي على بعد إنساني فإنها متطابقة مع ذات الشاعر من وجهة انتمائه إليها ، وهكذا نجد ان الشاعر البريكان كان مغترباً بالضرورة عن الاتجاهات الشعرية لجيلين كاملين افرزا اختلافاً في الرؤى مكننا من التمييز بين التطورات السياسية وما يقابلها من تطورات إنسانية ، لذا فان اشتغالات البريكان الشعرية حتى وان تسرب إليها نوع من الهم السياسي على قلته فانه يتجلى مرتبطاً بالشرط الانساني بالدرجة الأساس ، وليس أدل على ذلك ما نلمسه في قصيدة (قتيل في شارع) إذ نتبين إن جدوى استعمال موضوعة الهم السياسي لدى البريكان يختلف عن جدوى استعمال خدام شعراء هذه الموجة ، على الرغم من ان مستهل القصيدة يوحي بركوبه لتلك الموجة الشعرية ، غير أن هذه الخاصية لا تتماشى مع صورتها الأخرى في نهاية القصيدة التي تقدم المزيد من الحيرة والتوجس الذي يأخذ صورة الشعور بضياع الإنسان . يقول في مستهل قصيدة (قتيل في شارع) المنشورة عام (1959م) :
وتوارت الأصوات وابتعدت خطى المتظاهرين
وانشقت السحب الثقال الغبر عن جسد طريح
وسط الطريق . وأطبقت أيدي قساة قاتلين
غضبى تقلبه ، وندّ وراءها صوت قبيح
كلب قتيل أو جريح

ومع مضي القصيدة تبدأ النبرة الإنسانية تصعيداً تدريجياً لمعطيات الحدث باتجاه مغاير :

كالكلب كان الميت المجهول يسحب باحتقار
كالصيد يُحملْ في الشباك
الجو كان . غشاوة والرعب يخترق النهار
وعلى تراب الشارع المبهور في قلب المدينة
كانت هنالك بقعة حمراء تنضب في سكينة
ويكاد يطمرها الغبار

إن الاشتغال الشعري على (البقعة الحمراء) التي تختزل وجود إنسان بأكمله يتولد انطلاقاً من فكرة الغبار الذي بوسعه ان يطمر هذه البقعة ، وهذا لا يعني فقدان الإنسان لحريته فحسب بل لمصيره الإنساني ايضاً ، ومن ذلك نستدل على عدم وجود دلائل بارزة لنبرة الهم السياسي في شعر البريكان ، وان الأمر يتعلق بغرابة مسلك اشتغالات الشاعر المتأسسة على معايير لا يعتروها أي إحساس غامر بالهم الذاتي والسياسي معاً ، إذ يتجلى الفعل الإنساني في شعره اسبق من الفعل السياسي والرومانسي في آن ، وذلك أمر تأكدت صحته في مراحل لاحقة على مستوى الجهد الشعري لتجربته ، ما يستدعي القول ان شعر البريكان لا يمثله هو نفسه بقدر ما يمثل غيره على الدوام ، إذ يبدو عدلاً القول إن قصائد البريكان امتلكت القدرة على استبدال ذات الشاعر بذوات الآخرين ، مبدياً ايثاراً في نقل ملكية النص ليكون جزء من ملكية المتلقي ، ان نقل ملكية النص للمتلقي يعد مساوياً لعملية (جعل شيء منتمياً الى شخص آخر) ليشكل احد أهم مظاهر الاغتراب الذي بمقدوره أن يولّد حالة من الإحساس بالضياع مردها اغتراب الشاعر عما يملكه وبالتالي فإن اغتراب الشاعر عن نصه يعني اغترابه عن ذاته الذي يفاقم بدوره إحساس الإنسان بضياعه في شعر البريكان حتى اذا كان متنقلاً وســـط بني البشر أو ماثلاً بينهم :
ضائع في الزمان
ضائع في العوالم
فاقد للبصيص من الذاكرة
سادر في شوارع لا يتذكر أسماءها
تائه في زحام المدن
يتبعثر في حدقات العيون
عسى أن يرى ذات يوم صديقاً
قديماً سيعرفه
إن عملية نقل ملكية نص البريكان تتطلب التمييز بين كتابة الشعر من اجل ذات الإنسان وبين كتابته من اجل ذات الإنسانية بأسرها ، لذا ظلت قصائد البريكان لا تقول ما يناسب ذات الشاعر نفسه ، إنما تقول على الدوام ما يناسب غيره من البشر ، في إطار منجز حداثي يتقن استثمار وظائف المتاهة والتفلسف ومستويات الدلالة عبر الأنظمة السمعية والبصرية والإفصاح عن تضادات مفجعة متولدة من الاغتراب الناجم عن نقل ملكية النص :
أخبار : تقارير
عن الخبز الذي لم يخترع بعد
كابوس
في أعين مفتوحة اغماء
ليس له علامة . توتر مغروس
في جسد العالم . موت متعب طويل
في صخب الإيقاع
………………………………..
لكن يغيض مرقص البشر
بالعنف والعويل
وبهذا المنجز الشعري وما ينطوي عليه من استبصارات تتوالد عنها عوالم شعرية متداخلة ، أصبح البريكان الشاعر الذي أراد أن يكونه ، متخلياً عن ملكية نصوصه وسط اغتراب وشعور مؤلم بالعزلة .