لم تستقبل العاصمة العراقية، مبعوث غورباتشوف، بنفس الترحاب حين لعب يفغيني بريماكوف؛ دور الوسيط بين بغداد، و گلالة ، ، مقر الملا مصطفى البارزني ، زعيم الحركة الكردية،خريج مدرسة الاستخبارات السوفيتيّة، وحليف موسكو، منذ انهيار جمهورية مهاباد الكردية، التي طمع ستالين، ضمن صراع دولي محتدم على القوقاز، وعلى إيران ، ان تصبح قاعدة لتوسيع النفوذ السوفيتيّ، في الشرق الأوسط ،عن طريق دعم الأقليات والاثنيات الصغيرة ، في نسق لا يبتعد كثيرا عن نهج فرنسا في سوريا ولبنان.
واذا كان بريماكوف، الستينات، مطلع السبعينات، مبعوثا لموسكو، بمهمات سرية في العراق، فان زيارته الى بغداد، بعد غزو الكويت، بأسابيع قليلة، كانت علنية ورسمية، بصفته مبعوثا لغورباتشوف، وفِي محاولة من آخر رئيس سوفياتي، لدرء الحرب، وايضا لحصد مكاسب إقليمية ودولية، تعزز مواقع موسكو المهتزة في المنطقة وفِي العالم.
ومن غير المعروف تماما ماذا دار بين الرئيس العراقي صدام حسين والمبعوث السوفيتيّ من حوار، وماهي تفاصيل العرض السوفيتيّ بالضبط.
فلقد عرض بريماكوف في كتابه
” حرب كان يمكن تجنبها” خطوطا عامة، تسبح في المياه، كما يصف الروس، الجمل الفضفاضة، والعبارات العامة.
وليس معروفا، فيما اذا كان رجل المهمات السرية، اوصل بالدقة، طلب غورباتشوف، الانسحاب غير المشروط للقوات العراقية من الكويت.
فقد سمعت من السفير
الراحل،سيرغي كيربيتشينكو(1951-2019)الذي رافق بريماكوف مترجما؛ ان المباحثات مع صدام حسين، كانت صعبة للغاية. ولكنه لم يفصح عن جوانبها . معللا ذلك بان الوقت سيحين للكشف عن كل التفاصيل.
ووعد بنشر مذكراته بعد نهاية خدمته الدبلوماسية.
الا ان الموت اختطف المستعرب اللامع والدبلوماسي المحترف سيرغي كيربيتشينكو، وهو على راس عمله سفيرا في القاهرة عن 68 عاما، وكان يعاني من مشاكل في القلب.
لقد وعد مرارا ، بلقاء يوثق، مهمته في بغداد مع بريماكوف، الذي حرص على اصطحابه الى العاصمة العراقية كمترجم مع انه كان يشغل منصبا دبلوماسيا في الخارجية، لثقته الشديدة بنجل رفيقه في جهاز أمن الدولة السوفيتيّة فاديم كيربيتشينكو (1922-2005).
ينحدر الدبلوماسي الروسي الذي خدم سفيرا في السعودية والامارات وليبيا وسوريا، ومات في مصر، من أسرة كل افرادها مستعربون.
والدته فاليريا كيربيتشينكو، المستعربة التي نقلت الى القراء الروس أهم الأعمال الروائية، لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ويوسف القعيد وغيرهم من كتاب مصر والعالم العربي.
وعاشت الأستاذة فاليريا، مع المستعرب فاديم كيربيتشينكو، في القاهرة سنوات طويلة، حقبة عبد الناصر، وكان زوجها ضابط برتبة جنرال، يعمل تحت غطاء دبلوماسي في جهاز الإستخبارات الخارجية السوفيتيّة. وأتقن العربية، وأنشأ شأنه شأن، بريماكوف شبكة واسعة من العلاقات وسط النخب المصرية السياسية والعسكرية والثقافية.
زرع الأبوان كيربيتشينكو، العرببة في قلوب ابنائهما المولودين في مصر، واصبحوا مستعربين، يتقنون لغة الضاد كما لا يجيدها عرب كثيرون.
ومن المؤكد فان مهمة بريماكوف المعقدة في بغداد، كانت بحاجة الى ضليع بالعربية، ولهجاتها، ليس فقط كي ينقل لصدام حسين بالدقة، ما يريد مبعوث غورباتشوف ان يُسمعه للرئيس العراقي، وإنما في نقل عبارات وجمل صدام حسين الطويلة ؛ حمالة الأوجه، الى الروسية.
وهي مهمة شاقة ؛ كما اعترف لنا سيرغي وهو يردد ضاحكا بالعامية العراقية ” شكو ماكو”. وقال :
مهمة لا يتصدى لها اما مغامر او متمكن!
وذكر السفير العراقي في موسكو حتى الغزو عباس خلف المكصوص(ت 2013) ، انه خلال عمله مترجما شخصيا لصدام حسين عن الروسية، كان يبذل قصارى الجهد لإيصال أفكار الرئيس العراقي للضيوف الروس، وكان يجتهد في ترجمة ” التورية” بين ثنايا حديث صدام حسين، والتي يتعمد اللجوء اليها.
ووفقا لشهادة السفير الراحل عباس خلف ،الذي وعد هو الاخر بكتابة يومياته، كما نظيره الروسي كيربيتشينكو، لكن الموت اختطفهما فجاة؛فان بريماكوف، كان صريحا وواضحا مع صدام حسين بضرورة الانسحاب الفوري من الكويت، وتجنيب العراق حربا مدمرة واقعة لا محالة.
بيد ان بغداد التي إستفاقت، على زلزال من مقياس غورباتشوف، يهدم جدارا حديديا، أتضح انه من ورق، اتكأت عليه، لم تستوعب الا بعد فوات الأوان، حجم الكارثة الجيوسياسية التي حلت بالشرق الاوسط والعالم؛ بفعل، الإنحسار السوفيتيّ، وتجلى ذلك واضحا، بالإنسحاب من افغانستان، وكارثة مفاعل تشيرنوبيل النووية،واستجداء غورباتشوف للقروض من ” زعيمة الإمبريالية ” ومن ” الغرب المتعفن”.
ولا ندري ما إذا كانت الدوائر العراقية المعنية، قد وضعت صدام حسين، في صورة التحول العاصف الذي هز أركان الحليف السوفيتيّ. لكن أداء القيادة العراقية، عشية وأثناء، وغداة غزو الكويت، كشف عن جهل مريع بالتحولات الدولية.
لعل صدام حسين، حين استقبل بريماكوف،على وقع تصريحات وبيانات صدرت عن الكرملين والخارجية السوفيتيّة؛ تندد بالغزو، توهم، بان مبعوث غورباتشوف الذي لم تفارقه القيافة السوفيتيّة التقليدية، ياتي للتعبير عن التضامن مع الفعلة العراقية من طرف خفي.
وما يعزز هذا التصور، ان مواقف الأعلام العراقي؛ إزدادت تصلبا، في خطابها المصر، على ضم الكويت والمضي بالمعركة الى النهاية بالتساوق مع رحلات مبعوث الكرملين الى بغداد.
في الأثناء ، ظهر الى العلن، الخلاف المستعر داخل المؤسسة السوفيتيّة في التعامل مع ملف العراق.
ففيما كانت جولات مبعوث الكرملين المكوكية على نمط كيسينجر، تلهث مسرعة لاقناع صدام حسين سحب قواته من الكويت، كانت خارجية شيفردنازدة، تصدر باسترخاء، التصريح تلو التصريح، تندد بالغزو، وتنشر الصحف السوفيتيّة مقالات، لم تعهدها أوساط الراي العام، في نقد حلفاء موسكو ” الثوريين”.
وفِي سابقة غير مألوفة ، أدلى وزير الخارجية ادوارد شيفردنازدة، بحديث واسع لاسبوعية ” موسكوفسكي نوفوستي” نوه فيه بوضوح ان مهمة بريماكوف، من شانها ان ترسل أشارة خاطئة الى صدام حسين، وتدفعه للاعتقاد بان “الشركاء” الأمريكان على استعداد للقبول بحل وسط.
وقال شيفردنازة للصحيفة التي هبت عليها رياح التغيير قبل غيرها من الصحف السوفيتيّة، لانها تصدر بعدة لغات أجنبية ما مفاده ؛؛
الأمر الوحيد الصحيح في التعاطي مع صدام حسين هو الحديث معه بصراحة ووضوح وصرامة. وان ينسحب من الكويت بدون مماطلة او حلول وسط.
وقال :
زيارات بريماكوف لم تكن مجدية. انها فقط خلقت لدى صدام حسين أوهاما حول إمكانية اقتطاع جزء من الاراضي وضمها الى العراق، والحصول على تسهيلات مالية وكسب الوقت.
وشدد شيفردنازدة على انه حين التقى طارق عزيز وزير الخارجبة العراقي في موسكو آنذاك ، أبلغه بوضوح وصرامة، ان العراق سيدمر في غضون ايام، من بدء الحملة العسكرية، لإخراجه من الكويت.
وان غورباتشوف الذي التقى عزيز لمدة نصف ساعة طالبه بالانسحاب الفوري.