ملفّ الفساد الماليّ من أشدّ الملفّات ضراوة واستفحالاً ونخراً للدولة العراقيّة.
والفساد صار من مميّزات الوظيفة العامّة، وغالبيّة كبار موظّفي الدولة متّهمون بهذه الآفة القاتلة، ولم نجد منْ يحسم هذا الملفّ السرطانيّ!
وفي يوم الثلاثاء الماضي أصدر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، أمراً ديوانيّاً خاصّاً بتشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد وتشكيلاته ومهامّه.
ومنْ يتابع فقرات الأمر الديوانيّ يجد أنّنا أمام لجنة جديدة مهامّها غير واضحة، وأقصى ما فيها (الالتزام الصارم بإفصاح المسؤولين المكلّفين عن ممتلكاتهم، وخلال مدّة لا تتجاوز أسبوعاً واحداً)!
فهل المشكلة تكمن في ممتلكات المسؤولين الحاليّين فقط، أم في سلسلة الفساد الممتدّة منذ الاحتلال وحتى اليوم، وكذلك في الاغتناء الفاحش بطرق غير قانونيّة؟
منْ يريد أن يحسم ملفّ الفساد ينبغي أن يمتلك الإرادة والقوّة، وبخلاف ذلك فهي مجرّد خطوة روتينيّة ستزيد (أوحال الفساد)، وربّما ستكون أسلوباً جديداً لابتزاز الفاسدين أنفسهم!
اليوم هنالك مئات التصريحات لمسؤولين عراقيّين ضدّ بعضهم البعض يمكن أن تكون أساس عمل مجلس مكافحة الفساد.
وسبّق للنائب مشعان الجبوري تأكيده بأنّه” يمتلك معلومات لو صرّح بها لانهارت أركان الدولة العراقيّة”!
الجبوري ذاته أكّد يوم الاثنين الماضي أنّ” شخصين اثنين استلما من مدير عام في مكتب وزير العدل وكالة مبلغ 300 ألف دولار حتّى يبقى في منصبه”، وبحسب الجبوري فإنّ ” هذا المبلغ رخيص لأنّ المنصب يستحقّ ثلاثة ملايين دولار؛ لأنّ فيه إطعام سجناء وغير ذلك من الجوانب الإداريّة المتعلقة بدوائر إصلاح السجناء”!
فهل هي وزارة حكوميّة، أم شركة خاصّة؟
وهكذا مئات التصريحات والبيانات التي تشخّص بعض الفاسدين!
وقبل يومين كشف منظّمة الشفّافيّة العالميّة أنّ “العراق حصل على المرتبة السادسة عربيّاً، والـ 13 عالميّاً بـ 168 نقطة في أكثر دول العالم فساداً”!
تصريحات السياسيّين بعضهم ضد بعض، وتقارير المنظّمات الدوليّة المؤكّدة لتفشّي الفساد تسلّط الضوء على نماذج القيادات السقيمة الحاكمة لعراق ما بعد 2003!
ثمّ أليست هذه التصريحات مستندة على وثائق – لأنّنا نتحدّث عن مسؤولين في الدولة- وبالتّالي لماذا تضع السلطات التنفيذيّة رأسها في الرمال وكأنّها لا تسمع هذه الاتهامات؟
ألا يفترض كشف تلك الأدلّة للقضاء، وتقديم هؤلاء السُرّاق لمحاكم تستوفي منهم أموال الشعب، وتوقِف مهزلة اللعب بالمال العامّ بعد أن فقد العراق أكثر من مليار دولار في عمليّات نصب واحتيال وسرقات رسميّة؟
وباعتقادي يتوجّب على الحكومة العمل على:
– تشكيل لجنة قانونيّة لحصر التصريحات الإعلاميّة والبيانات الرسميّة التي ذكرت فيها الشخصيّات المتّهمة، وتسجيلها في محاضر تحقيق رسميّة.
– إحالة المتّهمين للقضاء، ليقرّر منعهم جميعاً من السفر، والحجر على أموالهم المنقولة وغير المنقولة لحين الانتهاء من التحقيقات.
– استدعاء كافّة الأطراف المتّهمة، سواء أكانوا داخل البلاد، أو خارجها، وعدم التعامل بخوف، أو مزاجيّة، أو حزبيّة مع أيّ طرف متّهم، ومواجهتهم بالأدلّة المتوفّرة ضدّهم.
– منْ يثبت تورّطه يقدّم لمحاكمة علنيّة خاصّة، وتنفّذ بحقهم أقسى العقوبات المتعلّقة بخيانة الوطن والأمانة وسرقة المال العامّ.
– الاستيلاء على الأموال المسروقة، أو ما يعادلها، وإعادتها إلى الميزانيّة الرسميّة.
الحقيقة التي لا يمكن نكرانها أنّ الفساد الماليّ والإداريّ في العراق وصل لمراحل معقّدة، فهل ستنفّذ المؤسّسات التنفيذيّة والرقابيّة والقضائيّة واجباتها وتحافظ على أموال المواطنين، أم نحن أمام منظومة هشّة لا علاقة لها بالقيم الحافظة للمال العامّ؟
الخلل الأبرز في العراق هو في المؤسّسة الرقابيّة، البرلمان، الذي لم يقم بواجبه القانونيّ، لأنّ نسبة ليست قليلة من البرلمانيّين متورطون في عمليّات فساد ماليّ مع بعض الأطراف الفاعلة، وعليه لا يمكن تصوّر( أنّ الفاسدين يمكن أن يراقبوا الفاسدين)!
البذرة الحقيقيّة للإصلاح تنبت داخل أروقة البرلمان، ومن البرلمان يمكن أن تنطلق حملة القضاء على الفساد!
محصّلة الكلام أنّ حكومة المهدي وسط اختبار تاريخيّ كبير، ومَهمّة شاقّة، فهل ستنجح في حسم هذا الملفّ السرطانيّ، المرتبط بقوى سياسيّة وعسكريّة كبيرة، أم أنّ مصير ( مجلس مكافحة الفساد) إلى ميادين المساومات والتوافقات؟