6 أكتوبر، 2024 4:35 م
Search
Close this search box.

ملح وسمك وغاندي

يشكلُ الملح ذاكرة جميلة لطرف اللسان ، هذا ما تعلمته من أبي ، ومن الافلام الهندية تعلمت أن الملح هو غاندي ، وغاندي هو الفقراء عندما يكونوا حفاة وبملابس بيضاء تشبه أحرامات الحجاج .

لكن الملح في الأهوار هو ما يلازم فقط ذاكرة الخبز والطبيخ والسمك المشوي أو المجفف ( المسموطة ) ، وبالرغم من أن الضفاف المالحة لمياه الأهوار تنتج ملحا إلا أنهم قلما يستخدموه ، فلقد عودتهم مراكب شركة الهند الشرقية وتجارها أن يتبضعوا الملح الناصع البياض مع البهارات والكركم والتبغ ( التتن ).

، وعدا هذه الاستعمالات  نادرا ما تسمع بصدى الملح في الفم والذاكرة ، وحتى عبارة العيش والملح التي تدل على المعايشة والمودة لا يستخدمونها ، لأن الالفة في حياتهم ازلية والغرباء نادرا ما يأتون كضيوف لعزلة المكان ونأيه ، والمعيدي لا يحتاج بطبيعته وفطرته ليقول لأحد هذه العبارة حين يقدم واجبات الضيافة فهم لا يشعرون بمنية على أحد عندما يخدموه ، وتلك العادة سكنت قلوب المعدان لأنهم لا يملكون في اجسادهم وحواسهم امراضا حضارية.

لم يعش الملح في خلدهم كما القصب والجواميس والسمك ولكنه حين يشح في مذاق موائدهم ترتبك الحياة عندهم فيعودون الى حقيقة أن الملح من بعض اسرار حياتهم فيرسلون من طرة الفجر احدهم بمشحوف ليجلب الملح من مركز القضاء. لأنهم يعتقدون أن الاسماك المجففة من دون أن نملحها تظل حية على قيد الحياة وتتحول الى كوابيس ليلية لأطفالهم.

ذات يوم كنت اتحدث بأعجاب عن مسيرة غاندي في الحياة وسيره لمئات الاميال ليقود شعبه في المقاومة الصامتة ضد احتلال بريطانيا للهند لما كان يسمى بمسيرة الملح   ، وفهم شغاتي من كلامي أن الرجل  كان هندوسياً ، وليس موحداً ، أي لا مسلماً ولا يهودياً ولا مسيحياً : أن الثوار من رحم المظلومين يأتون ويرحلون ولن يبقى من أثرهم سوى الملح وأرغفة الجياع.

 قال شغاتي : ولماذا نسي أن يذكر السمك؟

قلت : لأن الهند تقدس انهارها فلا تريد أن تؤذي اسماكها بحشو بطونها في الملح لتصبح مسموطة.

ضحك وقال :حياتنا بدونها ( ماصخة ).

وهكذا يسجل الملح تفاصيل رؤيا جديدة دخلت بفضل المهاتما الى عالم رجل بسيط لا يدرك في الملح سوى ثلاثية الطبيخ والخبز والسمك.

واليوم يأتي غاندي برداءه الابيض ليزرع في الرجل أن الملح ليس فقط لإبقاء المسموطة لذيذة  في قدور النحاس بل هي نظرة الانسان الى جعل هذا البياض الناصع بياض لأحلامه في التخلص من جور الطغاة. يحمل شغاتي اليه مديحا لا يوصف حد الذي سأل الروزخون ذات عاشوراء : لماذا لا تأت على ذكر غاندي وهو الذي ينسب اليه القول  تعلمت من الحسين أن أكزن مظلوما فأنتصر.

وها انا أتذكر حوار الملح مع الرجل عندما قال : ب

الرغم من اننا لا نعاني من عقدة الحاكم والاقطاعي وليس بين ديارنا مخافرا ودوائر حكومية إلا انني ينبغي ان اتضامن مع السيد غاندي ولو اراد اسافر اليهم بمشحوفي لأشارك في مسيرة الملح.

ضحكت . وقلت : انت لست نوحا ، انت شغاتي .؟

ابتسم ايضا ، واغمض عينيه وقال :سأشاركه بالأمنية فقط.

اغمض عينيه ، وحين فتحها ، قلت له ان المهاتما قتل اغتيالا قبل عشرات السنين.

قال : ولكن ملحه ورداءه لم يستطع أحد أن يغتالهما.؟

أحدث المقالات