يبدو ان مايعانيه العراقيون اليوم من ارتباك وقلق، يسود الأوضاع الداخلية المتزامن مع هيجان الشعب بين الفينة والاخرى بشرائحه كافة، مرسوم ومخطط له مسبقا، وهو قطعا لم يأت من كوكب آخر، والراسمون والمخططون لم يأتوا من (زرف الحايط)، بل هم أدرى بشعاب العراق ذلك أنهم أهله، وإن كان بعضهم قد رحل عنه في سني حكم البعث.
وفي حقيقة الأمر أن الوضع هذا ليس غريبا او مفاجئا، بل هو متوقع بعد أن طال صبر العراقيين على سوء الإدارات والقيادات في مفاصل البلاد جميعها، ومن المؤكد أن انفجار المرؤوسين على رؤوس الحكم وأولي الأمر ومتصدري القرار في البلاد، لم يكن من وحي (البطر)، فما يحدث هو آخر الدواء، بعد أن أعيت المواطن سبل الاستطباب والعلاجات الناجعة لمشاكله المتأصلة، والمرافقة له منذ عقود، حيث يأخذ انفجاره ممارسات عدة، كالتظاهر والاعتصام وأحيانا يبلغ به السأم الخروج عن المألوف، فيحدث مايحدث من ردود أفعال قد تصل إلى المجابهة مع الجهات الأمنية، وقد عول المواطن قبل مايقرب من عشرين عاما، على من يتسنم زمام السلطة والحكم والتحكم بمصائر البلاد أنه فارس الأحلام، بعد عقود الجور والظلم والقمع التي عاشها، وقد بنى آماله على هذا الأساس، من دون أن يساوره شك في جدوى التغيير الجذري عام 2003.
إلا أن النتائج لم تأت بما تشتهي السفن، بل أنها أتت بما (يسد مشتهاة) المواطن الذي يأمل أن يعيش في كنف حكومة ترعى حقوقه وتصونها، وتؤمن له مستلزمات معيشته بالحد المعقول. وقطعا مع طول مدة خيبة الأمل وارتفاع سقف الخذلان، يتأجج في النفس شعور بالاضطهاد، ويتفاقم الأحساس بالألم لضياع الحقوق وغمطها، وهذا ما يفجر المكبوت، ويجبر المواطن على كسر القيود التي كبلته طيلة السنوات العشرين الماضية، علاوة على العقود التي سبقتها. وسوء الوضع هذا كما أسلفت بفعل فاعل او فاعلين متعمدين وقاصدين لكل مايحدث، فهم يقومون بدورهم حسب الأصول، إذ يحلو لهم تذوق آلام العراقيين، وإن لم يجدوا نارا، استعانوا بنار الصديق والعدو على حد سواء، لتحقيق تلك الرغبة الجامحة التي تنم عن ساديّتهم ودمويتهم، وما استغلالهم ظرفا او حالة يمر بها العراق الا محك لإظهار معدنهم الصدئ، كما يقول المثل العراقي: (رزق البزازين على المعثـَّرات).
ويبدو ان الصنم الذي سقط عام 2003 ليس الوحيد الذي كان لزاما سقوطه، بل ان هناك أصناما أخرى ينبغي ان تسقط، وهذه مهمة سفّان المركب، حيث يتوجب عليه قطع أي يد تعبث بسلامة شراعه، وقطع دابر كل من يسير ضد التيار المؤدي لبر الامان.
وهنا جاءت الخيبة الكبرى والخذلان الأكبر اللذان صدما العراقيين، فقد راح الكثير منهم الى استقراء المعطيات وتأويلها التأويل المنطقي، فكانت النتيجة أن من عول عليهم اليوم من رأس وزراء او رؤساء كتل وتحالفات، عادوا مجددا للتنكر بما وعدوا المواطن به، وهاهم اليوم يتصارعون من جديد على المناصب والكراسي، فمنهم من يشد على يد التحاصص، ومنهم من يريد الإبقاء على الحال رغم سوئه، ومنهم من (يحود النار لگرصته) ومنهم من يتحالف ويتكاتف ويتعاون مع آخرين على الإثم والعدوان، ويتضادد مع كل من يعمل على البر والتقوى، ومنهم من يتربص للتصيد في عكر المياه، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، فيما يضع المواطن راحته على خذه، راجيا أن يأتي أحدهم ليبدل الأوضاع الى مافيه خير وصلاح، ولكن كل من عول عليهم، لم يعملوا لمصلحته ولا مصلحة البلاد ومابدلوا تبديلا، فمن أراده (عون طلع فرعون) ومن تصوره بلسما تبين أنه ملح على جرح.
[email protected]