المرتبة الرابعة (مرتبة توحيد الإسلام العقلي):
المسلمون العقليون يمثلون المرتبة الأشد تنزيها لله من النصيين أو النقليين. وذهب بالأخص العقليون منهم إلى أبعد من ذلك في التنزيه، فنزهوه عن أن تكون هناك ثغرة مهما بلغت من الضآلة في أي من صفات كماله، أي في علمه، في قدرته، في حكمته، في عدله، وركزوا على العدل بوصفه من الواجبات العقلية، فإن أرقى مراتب الإيمان بالله عند المسلمين هي مرتبة العدليين الذين هم عقليون بالضرورة، ذلك في مقابل النقليين أو الوحيويين، ولو إنهم عقليون نسبيون، لأنهم لم يبلغوا أعلى مراتب العقلية، فبقي تنزيههم لله سواء عند النصيين، أو حتى عند العقليين تنزيها ناقصا، وإن كان العقليون (النسبيون) قد أسسوا لنظرية الحسن والقبح العقليين، بدلا من الحسن والقبح النقليين حصرا، والقائل بهما النصيون، الذين يستبعدون العقل في فهم الدين. وبسبب مراوحة حتى العقليين من المسلمين بين العقلية والنصية، غالبا ما وقعوا في التبريرية. ولذا كانت مرتبة التنزيه هي المرتبة العليا (الأولى) من هذه المراتب، كما سيأتي ذكره، لأن أصحابها أصّلوا مرجعية العقل، كما سنرى، ولذا استحقوا أن يُنعَتوا بالمنزهين أو التنزيهيين، لأنهم حاولوا وبدرجات متفاوتة، ولكن في كل الأحوال أعلى مما بلغه عامة المسلمين، بما فيهم العقليون، أن يسدوا الثغرة في تنزيه العقليين النسبيين أو العدليين النسبيين.
المرتبة الثالثة (مرتبة التأويل العقلي):
وهذه أدنى مراتب المنزهين المتحررين من الجمود على النص بنسب متفاوتة، وهي مرتبة الدينيين العقليين التأويليين، فهؤلاء الذين هم أصحاب المرتبة الثالثة يؤمنون بالدين، ولكن يسعون لفهم العقيدة على ضوء العقل، ويؤوّلون مقولاتها تأويلا عقليا، فمهما ابتعد النص أو ظاهر النص الديني الذي يواجهونه عن الضرورات العقلية، بذلوا أقصى الجهد ولو بتكلّف إلى تأويله تأويلا عقليا، وقد يكونون مضطرين لتكلف التأويل العقلي، خشية الارتداد عن الدين، الذي – صحيح – أنهم يبقون منتمين إليه، إلا أنه في واقع الحال قد يكون غير دين أتباع الدين، أو مبتعدا بدرجة تجعله يكاد يكون دينا آخر غير ذلك الدين، أو لنقل على وجه الخصوص إسلاما آخر مغايرا لكل إسلامات كل فرق المسلمين.