23 ديسمبر، 2024 5:02 ص

ملامح من الطائفية السياسية في العراق المعاصر

ملامح من الطائفية السياسية في العراق المعاصر

لقد كان لتعاقب الحكومات العربية (العباسيين والامويين ) ذات التوجه الواحد والحكومات الاجنبية (العثمانيين والصفويين ) التي تنتمي الى المذهبين السني والشيعي على حكم العراق دور كبير في تعميق الخلافات بين المذهبين بقيت اثارها الى الان حيث يترحم الكثير من العراقيين السنة على دولة الاحتلال العثماني ويعتبرونها خلافة اسلامية ويلعنون الدولة الصفوية ويعتبرونها دولة احتلال فيما يعتبر الكثير من العراقيين الشيعة الدولة العثمانية دولة احتلال ودولة الاحتلال الصفوي دولة موالية لاهل البيت، ويتمثل في كلا النظرتين ضيق في الافق وانعدام العلمية والانتماء الى المذهبية في التفكير والحكم على الامور بعيدا عن واقع الحال ومصالح العراق والعراقيين.
وقد اعترف السياسي العراقي كامل الجادرجي، وهو المعروف بانه من السياسيين السنة، ببعض الحقائق من مرحلة الاحتلال العثماني التي كانت معروفة ومتبعة ايضا في وقته مرحلة الحكم الملكي في العراق والتي كانت من صور الطائفية المكوناتية ضد الشيعة فقد ذكر في اوراقه (كانت الطائفة الشيعية تعد في زمن السلطان عبد الحميد وبالحقيقة في زمن الدولة العثمانية اقلية تنظر اليها الدولة بعين العداء فلم تفسح لها مجالات التقدم في اية ناحية من نواحي الحياة العامة ومن الامثلة البارزة على ذلك انها كانت لايقبل لها تلميذ في المدرسة الحربية ولا يقبل منها فرد في وظائف الدولة الا ما ندر وعند الضرورة القصوى وحتى في مدارس الدولة الاعدادية القليلة كانت توضع العراقيل في طريق دخول ابناء الطائفة فيها فادى ذلك كله بطبيعة الحال الى انعزالها … فكان العداء يستحكم يوما بعد يوم بينها وبين الدولة )<!–[if !supportFootnotes]–>[1]<!–[endif]–> واشارة الجادرجي هذه واعترافه بسياسة الاقصاء والتهميش التي انتهجتها الدولة العثمانية ضد الشيعة العراقيين في بلدهم تدل على عمق معاناتهم في تلك المرحلة ومدى تعرضهم للاهمال المقصود .
ولم يختلف الامر كثيرا بعد انتهاء الحكم العثماني ودخول العراق تحت الاحتلال البريطاني وتشكيل الدولة العراقية في عام 1920 فقد استمرت الطائفية المذهبية على صعيد العلاقة بين الحكومات المتعاقبة المتمذهبة سنيا وعموم الشيعة وبتحريض من الاستعمار البريطاني في مرحلة الحكم الملكي لانهم ساندوا الدولة العثمانية بدوافع الانتماء الاسلامي المشترك والجهاد ضد الكفار (الجيوش البريطانية) ثم بعد ذلك قاموا بالثورة التحررية العراقية الكبرى (ثورة العشرين) في حزيران عام 1920 التي هزت (بريطانيا العظمى) واجبرتها على تغيير سياستها في العراق وتشكيل حكومة صورية موالية لها حيث كان الشيعة هم المحرك الاساسي لها فمن مناطق سكنهم انطلقت وهم قادتها ورجالاتها واكثر من ضحى فيها لكن غيرهم كان المستفيد منها على مدى اكثر من ثمانين عاماً فهم لم يشتركوا ولم يشركوا في قيادة الدولة بعد ان أسسوا لصناعة الثورة والتحرر والاستقلال. فقد ظل الشيعة يعانون التهميش والاقصاء والتجهيل حتى ان الملك فيصل الاول الذي حكم العراق للفترة (1921-1933) شخص هذا الخلل في نسيج المجتمع العراقي وحاول اصلاحه بفسح المجال للشيعة للقبول في المدارس الاعدادية والعسكرية والانخراط في الوظائف الحكومية فقد ذكر في مذكراته التي وزعها على النخبة المقربة منه نهاية عام 1932 (العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على انقاض الحكم العثماني وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا اكثريته جاهلة، بينهم اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي عنها بدعوى انها ليست من عنصرهم واكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة، الا ان الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين)<!–[if !supportFootnotes]–>[2]<!–[endif]–> وفي هذه المذكرة اشارة واضحة الى ان الشيعة يمثلون اكثرية السكان ومع ذلك فانهم كانوا يعانون من قسوة تعامل الدولة العثمانية المخالفة لهم مذهبيا على الصعد المختلفة واهمها التعليمية والوظيفية في الحكومة والجيش والتي كان من نتائجها ان يتصور الملك بانهم ومعهم الكرد يمثلون قطاعات الجهل والتخلف في العراق ويبدو انه اعترف بذلك بمرارة ورفض وحاول اصلاح ذلك الخلل في نسيج المجتمع ولكنه لم يستطع ربما لانه اراد ما لم تقبل به القوى المسيطرة فعلا على الحكم في ذلك الوقت.
وقد وصلت السلبية في التعددية العراقية الى اعلى مدياتها في ظل النظام البعثي الذي حكم العراق بالحديد والنار للمدة (1968 – 2003) اذ استخدمت الحكومة الدكتاتورية ضد المكونات المحكومة اقسى اساليب القمع الفكري والتصفية الجسدية فقد كانت السجون والمعتقلات تملأ بشبابهم ورجالهم بين الفترة والاخرى وبتهم كاذبة وجاهزة ويتعرضون فيها لشتى اصناف التعذيب الجسدي والنفسي الغاية منها ارهابهم ومنعهم من القيام باي فعل مضاد للحكومة.
ومن ضمن ماقامت به الحكومة البعثية عملية تهجير الكرد الفيلية بالقوة تنفيذا للقانون رقم 666 لسنة 1980 الذي صدر بدوافع عنصرية ومذهبية والذي اسقط الجنسية العراقية عن مئات الالوف من الشيعة العرب والكرد الفيلية بسبب كونهم من التبعية الايرانية حسب القانون المذكور حيث يصر الحكام والسياسيون والمشرعون على ان العراقيين خالين تماما من التبعية العراقية الوطنية اذ تقسمهم قوانين الجنسية الصادرة بعد تشكيل الحكومة العراقية عام 1921 الى تبعية ايرانية وتبعية عثمانية وهو من نتائج وبقايا الصراع الصفوي العثماني على الساحة العراقية وانقسام العراقيين بين مؤيد لهذه الدولة ومعارض لتلك والذي كان من الصور السيئة جدا للتعددية العراقية فمن سينتبه الى ذلك ومتى ؟!
وقد تم تنفيذ القانون المذكور بمنتهى القسوة والوحشية وبعيدا عن ابسط حقوق الانسان وذلك باعتقال الشباب والرجال الذين لم يعرف مصير الكثير منهم لحد الان والقاء النساء والاطفال والرجال كبار السن على الحدود العراقية الايرانية الملغومة ايام الحرب بين البلدين بعد تجريدهم من وثائقهم الرسمية التي تثبت انتماءهم للعراق ومصادرة اموالهم المنقولة وغير المنقولة. وقد خير العسكريون المتطوعون المتزوجون من المشمولات بالقانون بين تطليقهن لانهن تبعية ايرانية وبين الطرد من الخدمة العسكرية مما يعني انهم خيروا بين شرين اما القبول بتفكيك عوائلهم او حرمانهم من مصدر رزقهم ومحاربتهم في معشيتهم.
واتذكر الاشهر الاولى من عام 1980 حيث كنا جنودا في مركز المعدات الالكترونية في معسكر التاجي فقد تم اعتقال احد اصدقائنا في الدراسة والعسكرية وهو ابراهيم وكان من اهالي محافظة السماوة ويمتاز بحسن الاخلاق اضافة الى كونه رياضي من الطراز الاول فعم الحزن في حينها بين مجموعة الاصدقاء لانه كان عراقيا اصيلا محبا لبلده ومضحيا لاجله ولو كان ايرانيا لهرب من الخدمة العسكرية ولما التحق ليكون جنديا في الجيش العراقي ولم نكن نتجرأ على السؤال عنه لان ذلك يعني القاء النفس في التهلكة ولم نعرف مصيره بعد ذلك.

هذه المقالة ماخوذة من كتابي (الديمقراطية التوافقية العراق انموذجا ) الذي صدر في بغداد عام 2011

—————
كامل الجادرجي : (من اوراق كامل الجادرجي) ص86
عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية ج3ص316 نقلا عن كتاب (محنة الاكثرية في العراق) ص140 للكاتب ناصر حسين ناصر